على الطاولة فعاليات ملتقى حنا مينة للإبداع الأدبي

الوحدة : 29-11-2020

ستظل عقلية الأمم وسلوك حياتها هي الثقافة بكل أشكالها الآنية و التراكمية ،وستظل تصبغ الحياة بنسغها الدائم لكن ومع هذا سيظل لها عنوان في يوم ما تقيم نفسها وتكرّم أبناءها و تستعيد بعض بوحها على لسان مثقفيها وكتابها في الأيام الاحتفالية للثقافة هذا العام وتحت رعاية وزيرة الثقافة د . لبانة مشوح ، كان لابن اللاذقية حنا مينة وفي مدينته عنوان ورسالة وقراءة على الصعيد الشخصي والأدبي والروائي .تحت عنوان ( ملتقى حنا مينة للإبداع الأدبي ) كانت احتفالية الثقافة في دار الأسد باللاذقية يوم الإثنين الفائت بدأت وكما العادة بتحية لسورية و لجيشها الأبي بالوقوف دقيقة صمت ثم النشيد العربي السوري ليفتتح المهرجان الأديب نزار جعفر منسق الفعالية مرّحباً بالحضور ومعرفاً بالمشاركين ولتكون البداية كلمة مديرية الثقافة التي ألقاها مدير الثقافة باللاذقية مجد صارم حيث قال::” السيدات والسادة ، الضيوف الكرام، مرحباً بكم في داركم ومحاكم الذي نحن فيه الضيوف وأنتم الأهل ولكم المحل … إنه صوت بحار يعتلي الموج ،يلقي علينا السلام من نريده الأخير في حي الفترة بين سروتين، إنه الفارس الذي ترجل عن صهوة الموج .فكتب وأبدع حيث جسد حكايات البحارة . حنا مينة المولود في اللاذقية ١٩٢٤م والمتوفى فيها ٢٠١٥م وكأني أقرأ فيه العود للبدء والتأكيد على الانتماء، وأي انتماء أبرز من انتماء الإنسان إلى بيئته ودائرته التي تختصر وطن ، نعم ، هو حنا مينة الذي رأى البحر موطناً له فسكنه وأسكنه جوارحه فغلب على كتاباته وشخصياته ، ومن الجدير بالذكر التركيز على الواعية التي تميز بها حنا مينة عن غيره .
عاش حنا حياة بائسة في طفولته في مدينته الساحلية ( اللاذقية) التي كانت عشقه وملهمته جبلاً وبحراً، فكافح مواجهة الحياة ومرارتها ، واستشهد بقول على لسان الروائي الذي اقترن اسمه بالبحر أو ربما البحر باسمه أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين وجميل هو أن تمنح حياتك فداء الآخرين الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً لكنك تؤمن أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل جدير بأن تضحي في سبيلهم ، ( هذا هو حنا مينة على لسانه يعبّر عن إنسانيته ، وأما عن مهنته الأخيرة فيقول:” مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر الطرق إلى التعاسة الكاملة، لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني وبسخاء، يقال : إنني أوسع الكتاب العرب انتشاراً مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر ابن أبي ربيعة القرن العشرين ، يطالبونني في الوقت الحاضر بمحاولاتي الأدبية الأولى التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين ، لكنها بالنسبة إلي ورقة خريف أسقطت مصابيح زرق) .
حنا مينة أديب وهو أحد عمالقة الرواية في سورية والوطن العربي ، أديب الحقيقة والصدق عصاميّ ساهم في بناء الرواية العربية ، أبدع في الكتابة عن البحر بروايات فيها الكثير من الصدق والعمق والمعاناة والكفاح والواقعية والجمال ، وقد تناول في أعماله كافة القضايا الإنسانية والسياسية كالاستغلال والجشع واضطهاد المرأة وغيرها العديد من القضايا التي تتناول المعاناة الإنسانية ، في النهاية يستوقفني حنا مينه في وصفه لحالة الفقر التي عاشها في طفولته حين يقول:” كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى) فهل هذه الطفولة المعذبة والواقع المرير من يقف خلف إبداع هذا الروائي ، هذا وغيره من الموضوعات وقضايا سيتناولها المحاضرون في محاضراتهم خلال مهرجاننا ، دمتم بخير مع تمنياتي لكم التوفيق في مهرجانكم ” .
* بعد الكلمة الترحيبية لمدير ثقافة اللاذقية مجد صارم ، تحدث الأديب نزار جعفر شارحاً سير الاحتفالية في برنامجها على مدار ثلاثة أيام ،ثلاثة محاور والتي تتضمن في يومها الأول شهادات ودراسات في أدب حنا مينة واليوم الثاني يتضمن علاقة الرواية بالثقافة البصرية ، الدراما والسينما والفن التشكيلي ، أما الثالث والأخير فيتضمن تقنيات السرد في الرواية السورية عامة وعند حنا مينه خاصة.
والبداية في اليوم الأول مع د. وفيق سليطين ود. فوزية زوباري و حسام خضور ود. عاطف البطرس إضافة إلى الأديب والكاتب الحر غزال .
* ومع المشاركة الأولى للدكتور وفيق سليطين الذي قدّم دراسة لرواية من روايات حنا مينة وهي (الولاعة ) تحت عنوان ” ما الذي يمكن أن تضيئه الولاعة – تحولات الكتابة وممكنات التأويل ” فيقول في مختصر ومقاطع من دراسته :”

تتخذ هذه القراءة من رواية (الولاعة) منطلقاً لرصد التحولات المشار إليها في العنوان ضمن تجربة حنا مينة وتحاول أن تثير بعض الأسئلة الخاصة بتجربته في الكتابة الروائية وبما آلت إليه في ضوء علاقتها بذاتها وعلاقتها بمرجعها وصولاً إلى إنتاج هذه العلاقة على المستوى المفهومي المشتق من البناء الفني ومحدداته النوعية . تقدم (الولاعة ) تمثيلاً فنياً للواقع الاجتماعي في لواء اسكندرون زمن الاحتلال الفرنسي وتحكي سيرة عائلة “فرح” الذي مات والده (عبود الأرمني) وزوج أمه ( رزق الله المخزومي) المدرمش الذي يعمل حمالاً في الميناء . تبدأ الحكاية بلسان فرح :” كان عمي زوج أمي رحلاً مدرمشاً حفر مرض الجدري في وجهه ثقوباً باقية…” وتمضي أحداثها باتجاه النهاية في تتابع زمني ومنطقي بحكم الرواية التقليدية وما يتبدّى فيها من تحولات قياساً على أعمال حنا مينة الأساسية في نهج رواية الواقعية الاشتراكية “. وقد تحدث د. سليطين عبر محاور ثلاثة هم اولاً – من النمذجة إلى التنميط وبملخص وموجز قال:” على خلاف ما يعرف به النموذجي من الغنى والحيوية من واقع يعكس الخصائص والسمات التي تمّيز طبقته نلاحظ في مصل ( الولاعة) اختزالاً لهذه الخصائص وتثبيتاً لها بحيث أنها تطبع الشخصية الروائية وتقدمها من أول العمل إلى آخره ، ويعني ذلك أنها تحضر بمواصفات ثابتة لا يعروها التطور ولا تغير منها الأحداث فتبقى على حالها في مختلف المواقف أقرب إلى السكونية في ملازمتها القالب المضروب “. ليستفيض د. سليطين معززاً فكرته بالاستشهاد من الرواية وأحداثها مستعرضاً وواصفاً هذا المحور بتفحص ، ليتابع د. سليطين محوره الثاني ، ثانياً- من الكتابة إلى الاجتزاء حيث يقول في هذا المقطع :” تعدّ الرواية تصويراً سردياً للكلية الاجتماعية كما يرى (لوكاش) وجرياً على ذلك كان النص الواقعي معنياً بالكلي والشمولي وبالارتقاء إلى وصل الخاص بالعام في تفاعل الداخل والخارج وقد سبق أن نبّه ( هيجل) منذ القرن التاسع عشر على أن الرواية تقتضي – كما هو حال الملحمة- إبراز لوحة الحياة بكل ما فيها من عناصر الغنى والتنوع والتعقيد ” ويناقش د. وفيق رواية (الولاعة ) من هذا الجانب مستفيضاً بالشرح للجانب المشار إليه ، أما المحور الثالث  من الرواية إلى الحكاية ويقول د. سليطين فيه :” تعتمد الرواية عامة على حكاية هي أساسها تكون فيها الخاتمة مرتبطة بالبداية ونتيجة لها، لكن الرواية ليست هي الحكاية كما بيّن الإنشائيون الذين ميّزوا بين المتن والمبنى أو بين الحكاية والخطاب ، اعتماداً على تمثيل الحكاية للمضمون الذي تؤديه الأحداث القائمة على التتابع نجد في ( الولاعة) ما يعزز الطابع الحكائي في رواية الأحداث وتطورها وفي نمو شخصية “فرح” وتحولها اناً بعد آن في هذا المجرى على الرغم من تأرجحها بين قوى الشد والجذب في الاتجاهات المختلفة “. وبإفاضة كاملة دعم د. سليطين حديثه ضمن سياق الرواية الزمني والسردي لينهي حديثه قائلاً ومستعرضاً شواهد ومقاطع من الرواية يقول في ختامها وعنها:” إن اقتران (الولاعة) بالمخزومي (الطبقة العاملة) يشير إلى بصيرة الكشف عن عمق التحولات الجارية في الواقع الذي تنطلق منه الكتابة وبهذا يكون ما تضيئه ( الولاعة) او الرواية هو انحسار الأحلام أو انكسارها بفعل التحولات المحيطية التي نشهدها الآن بما انتهت إليه من دفع أحلام النهوض والتجاوز ، وخفضها، وتقليص حدود إمكانها . ان ذلك كذلك فهل يمكن أن نقرأ على هدية ما كان من انحلال الشكل الروائي في طابع الحكاية الذي ينطوي بالضرورة على ذلك الخفض “.أما المشاركة الثانية فهي لحسام خضور الروائي والمترجم ورئيس تحرير جريدة الجسور الذي تناول إنتاج حنا مينه في بعده الاشتراكي فكانت محاضرته بعنوان ( الواقعية الاشتراكية) فقال :من مشاركته :” وفاءً للروائي حنا مينة سأقدم السيرورة شبه التاريخية للواقعية والأشكال التي أخذتها تاريخياً حتى وصلت إيجازاً إلى الواقعية الاشتراكية التي اخلص لها حنا مينة منذ بداياته ولم يحد عنها ، إذا أردنا أن نتحدث عن الواقعية في أدبنا نعود إلى عصر ما قبل النهضة في أوروبا ، وإلى ما قبل الغزو العثماني لبلادنا واحتلالها الذي يعادل عصر النهضة في أوروبا ، وربما نجد بذور الواقعية في شعر المتنبي وأبو العتاهية وأبو نواس والمعري وربما كانت حكايات ألف ليلة وليلة على لسان بطلتها شهرزاد هي المثال الأفضل ، ولأن الاجناس الأدبية في تراثنا وفي التراث العالمي لم يعرف الرواية إلا حديثاً لهذا يضطر الباحث عندما يتحدث عن الواقعية أن يبدأ بعصر النهضة في أوروبا والتي تأخر قدومها إلى أدبنا إلى مابعد الاستقلال أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .وفي هذا البعد نرى الواقعية في آداب العالم الثالث مرتبطة بالسيادة الوطنية ، وحنا مينة ذا التحصيل العلمي المتواضع أكاديمياً حمل إلى الأدب العربي شيئاً خالداً : أدب البحر بأسلوب الواقعية الاشتراكية “. ويتابع خضور في محاضرته مستعرضاً الواقعية الاشتراكية عند الأدب العالمي وسماته وتطوره ليخلص القول :” الواقع الاشتراكي لا يمكن إلا أن يكون أدباً ثورياً ، إذ يسعى وراء كل عمل فنيّ يرفع وعي الناس الجمالي والمعرفي. ويحرّض الجماهير ويستنهض هممها ويرسخ إيمانها بقدراتها على بناء عالم أفضل “. ثم يتابع خضور قائلاً :” وما يميّز الواقعية الاشتراكية هي أولا الشكل الإيجابي الذي هو من أبرز السمات الفنية في آثار المدرسة الواقعية الرومانسية والواقعية الجديدة والواقعية النقدية الأدبية والفنية ارتكازها عادة على شخصيتين ، الجلاد الطاغية والضحية المثيرة للشفقة ، وثانياً وحدة الواقع والمثال حيث إن الفنان الواقعي الاشتراكي ينظر إلى نقطة الضوء في الظلام ، ينظر إلى المثال الإيجابي المنشود ليس كحلم في إطار وحدة الصراع و الأضداد والمحور الثالث هو جدلية الشكل والمضمون ، فالشكل الفني هو أداة تبليغ المضمون الواقعي الصحيح ، ومن هنا يمكن أن نقول :كنا لو أن الروائيين الكبار يولدون كباراً ، هذا حال مينة وهذا حال هاني الراهب وحيدر حيدر أقصد هنا المصابيح الزرق والمهزومون والزمن الموحش ثلاثة أعمال رائعة هي الأعمال الروائية الأولى لأصحابها ، الروائي لا يخلق عالماً ، بل يعمل جاهداً على إقناع القارئ أن ما كتبه صحيح ، وقد حدث في الواقع وأنه مجرد ناقل ، كتب حنا مينة كثيراً و أقنع قرّاءه كثيراً ، كثيرون صدقوه. فشخصيات أعماله ليست غريبة وصفات أصحابها تنطبق على كثيرين ، أين نجد شخصيات كالطروسي والمرسنلي وسعيد حزوم وغيرهم في الأدب الروائي السوري ، شخصيات حنّا مينة حية تتطور ولا تخشى المواجهة مع قوى الطبيعة العمياء ومع قوى المجتمع التي تبدو كلية القراءة مثل القدر “.أما المشاركة الثالثة في هذه الاحتفالية فكانت ل د. فوزية زوباري وكانت بعنوان ( حنا مينة في مرآة ذاته ، تجربة الروائية نموذجاً ) .
حيث قالت في مجتزءات :” درج الكثير من المبدعين في حقلي الشعر او السرد على الحديث عن تجربتهم الذاتية من خلال التنظير بوصفهم المبدعين الخالقين لتلك النصوص ولذلك عمد منظرو تحليل النص الروائي الى تحديد مجموعة من التقنيات والمفاهيم التي لا بدّ من توافرها في النص السردي ولاسيما الروائي ، وباعتبار الروائي اعتمد على حدسه أكثر مما اعتمد على استراتيجية مضبوطة المقاييس والمعالم لذلك هناك مجموعة من الأسس التي تعتمد عليها الرواية وهي أولاً المصدر المعرفي في الرواية و من هنا نرى أن حنا مينة آمن بأن الرواية تجربة حقيقية مصدرها ما.

 عاشه الروائي وما رآه وما عاناه من دون أن تكون هذه المعاناة خالية من الفرح مادامت تقترن بالكفاح ويستمد الروائي مادته مما يترسب في قاع الذاكرة سلبياً كان أو إيجابياً ويشير إلى أن عالمه الروائي لا يستقيم إلا بالتراكم الذي يعتمد الكثرة من الروايات فالرواية أو الروايتان او الثلاث لا تشكل عالماً روائياً إلا إذا استطاعت وبتكثيف أن تحيط بكل ما في المجتمع وقد اغتنت ثقافته المعرفية من مصدرين أساسيين هما الكتب والناس والمطالعات خارج كلّ تحصيل مدرسي. وكانت القصة والرواية هما النبع الذي استثنى منه تلك الثقافة إضافة إلى أنهما كانتا العامل الفعّال وراء شغفه بالمطالعة ويلعب الماضي دوراً مهماً عند مينه في عمله الروائي وهو ما يدعوه بالتخمر أي الابتعاد عمّا هو آني.

فالأحداث تعيش معه مهما ابتعدت وثانياً – العمارة الروائية وهنا لا يختلف المعمار الروائي بالنسبة إلى حنا مينه عن المعمار الهندسي سوى في شكل التحضير للعمارة. فالروائي يعتمد على التصميم الذي خطط له في ذهنه أولاً ثم تأتي عملية نقل التخطيط الذهني الى الورق وهنا يؤكد مينه على ضرورة المحافظة على وحدة الرواية من خلال إقامة نوع من التوازن الدقيق بين الإفراط في تفصيل المشاهد والصور او الإقلال منها الى درجة يضر بالمشهد وثالثا – الشخصيات حيث يصرّح مينه بأن شخصياته من لحم ودم لأنه يخلقها ولا يتناولها جاهزة وهو حريص على الابتكار بحيث تكون لتلك الشخصيات بعدها الإنساني وهذه الشخصيات هي في الغالب من الأبطال الشعبيين ومن الطبقة الكادحة لكنه في الوقت نفسه يرى الخطر كله في تكبيل الروائي بقيود المخططات وشروط الأبطال إذ يجب أن يقدم نماذج ناجحة تتحدد إيجابيتها أو سلبيتها من خلال الفكرة التي تنتصر في الرواية ذاتها ، رابعاً – لغة الرواية وهنا نرى أن مينه يتوقف عند لغة الرواية .فيعرب عن تفضيله لاستعمال اللغة الفصحى وحتى في مجال الحوار بوصفها أقدر على التعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة والمتنوعة ووفق رأيه بأن الروائي الممتاز يستطيع أن يطوّع لغة الحوار بالفصحى لأدق أغراضه لأن لكل كلمة عامية جذراً في الفصحى وخامساً – الكتابة والحرية التي يعتبرها مينه هي العنصر الجوهري فالكتابة من دون حرية وعنده توقف مينه بوضف يرتبط ارتباطاً عضوياً بالكتابة الروائية. أما سادساً – فهي وظيفة الأدب ومهتمته وهو الموضوع الأهم للأدب لأن ما تمنحه الروايات ليس المعلومات الجديدة وإنما القدرة على التواصل مع كائنات مختلفة عنّا حيث إن حديث مينه على أن وظيفة الأدب و مهمته ليس إلا من قبيل فهمه لطبيعة هذا الدور الإنساني الذي يجب أن يضطلع به ونلّخص وجهة نظره في عدة نقاط هي الالتزام في الأدب وليس الإلزام – إن الرواية وظيفة اجتماعية – الرواية ملزمة باستشعار المستقبل والبحث عن أدوات صناعته – تناول قضية العصر الكبرى من خلال نفسه – أن يسعى الأدب إلى وضع القارئ في دائرة المسائلة ).
سابعاً- الواقعية الرومانتيكية حيث يعلن حنا مينه صراحة ميله إلى مذهب الواقعية الاشتراكية في كتابة الرواية فيقول:” نعم أنا كاتب واقعي رومانتيكي وخريج مدرسة الواقعية الاشتراكية بامتياز “. وتتابع زوباري حديثها عن خصوصية التجربة الروائية عند حنا مينه قائلة :على الرغم من أن الروائي مينه كان قد صرّح في أكثر من مناسبة بأنه لا يدعي التنظير للرواية وتجربتها ، كونه مارس تجربتها قبل أن يعي مفهومها بشكل واضح إلا أنه حاول ذلك قبيل الكشف عن فنه الإبداعي من منطلق ذاتي كان مصدره ما عاشه وما رآه وتنبع التجربة الخصوصية عنده في نقاط عدّة هي ( الصدق في التجربة – الموقف الإنساني – التداخل الروائي والسيري – دفاعه عن اللغة الفصحى ) . تجربة حنا مينه هي تجربة طويلة المسار زمنياً ومتنوعة الفضاءات فقد قاد مينة بحنكة الربان الماهر والشجاع حتى وصل إلى بر الامان ” .

أما المشاركة التالية كانت ل د. عاطف البطرس عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية النقد الأدبي ، صدر له مؤلفات عديدة منها كتابه ( حنا مينه بين المعيش والمتخيل) وكتاب اخر ( قصدية النصر، مقاربات في الرواية العربية والعالمية، وهو محاضر في المراكز الثقافية وعضو في لجان التحكيم لمهرجانات القصة والرواية وكان لصيقاً جداً ومقرباً من حنا مينه حيث تحدّث طويلاً واستفاض عن خصائل وسمات مينة على الصعيد الشخصي وإنسانيته المفعمة بالحبّ وكرمه وخصاله النبيلة وسرد مجموعة من الحكايات عن تعامله الراقي مع دائرته المقربة والأبعد ، هذه الخصال التي حملت معه قلبه المليء بالأحداث و سيّرت دربه المفعم بالنجاح والعطاء .أما الختام فكانت المشاركة للأديب الحر غزال الذي تحدث عن حنا مينه في عنوان هو ( الأسطرة) حيث قال :”الأسطرة تماماً كما أنا بينكم الآن في موقف لا أحسد عليه، كذلك أنا بينكم الآن في موقف يتمنى الكثيرون أن يقفوه!. إذ ماذا يمكن أن أقدم من شهادة في مهرجان يحتفل بحنا مينه، والخبير يشهد للمبتدئ وليس العكس، سيما وإني المبتدئ قد سبقني الكثيرون من النّقاد والكتاب بملء الصفحات الكثيرة عن الكاتب المشهور أدبياً وشيخ الرواية كما أطلق عليه.

في جوجلة عن ماذا أكتب نصحني الأستاذ نذير جعفر بالكتابة عن الشهادات كأرضية أولى، أو الاستناد إلى توظيف السيرة الذاتية للكاتب في عمله الروائي، وعندما اعتمدت الثانية، وجدت تصنيفين لما اعتبر سيرة ذاتية للكاتب حنا مينة بين من اعتبر (بقايا صور والمستنقع والقطاف)، وبين (حكاية بحار، والدقل والمرفأ البعيد)، فاعتمدت التصنيف الثاني. وأخذ بقلمي اسم “واكيم استور” الذي عرّفه حنا مينة ب “حقوقي أرمني من متقدمي اللاذقية”، كان واكيم الدليل لي “من أين أبدأ؟” حين وجدت اسمه في مقدمتين إحداهما لرواية “الدقل” من كتب السيرة، والثانية رواية “الفم الكرزي” التي اعتبرها واكيم (الرواية الرمز)، وذلك لموضوعها طبعاً لا لنسيجها، فهي بتعبير واكيم: ” تسجل الأشياء والأشخاص ربما لأول مرة بأسمائها الحقيقية علنا دون مواربة” واكيم ليس ناقداً أدبيا ًلذلك سيأخذ من الأدب ما يهمه ويفسر ما يتلقاه وفق منظومته الفكرية، لا وفق الذائقة الفنية، لذلك كانت شهادته لهذه الرواية، وأقتبس: ” ثمة لحظات في عمر الإنسان يشعر فيها أنه توحد مع كل ما في الكون، فتصبح النضالات نضالاً واحداً، وكل البشرية إنساناً واحداً، يقيني أن هذه الرواية كتبت في لحظة من هذه اللحظات، ما أروع هذا الإنسان” انتهى الاقتباس. واكيم التقدمي كما عبّر عنه حنا في إيضاح الرواية واختاره ليكتب المقدمة، كما اختاره مع غيره ليكونوا جمهور حنا الأول، كما كتب واكيم في مقدمة رواية الدقل: إن حنا كان يختبر ما يكتب أمام أصدقائه يعرض عليهم ما حدث لأبطاله” -ولكنه كان ينسب البطولة له- يقول مثلا: اسمعوا ماذا حدث لي في مخزن التحف عندما كنت في الصين” حينها يقول واكيم لنفسه: بدأت رواية جديدة، حنا يعمل، لقد بدأ الوحام” استوقفني إحساس حنا عندما يكتب، كما ينقل واكيم نفسه “في لحظات الوحام تلك، كثيراَ ما كان يردد: لو أستطيع أن أتوقف عن الكتابة!. هذه المهنة التي أشقتني، أود أن أموت قبل أن تقهرني الحياة”” استوقفني المثال الذي ضربه “مخزن التحف” استوقفني لباس حنا عندما يكتب بكامل الأناقة كما قال واكيم كأن حنا يلد أسطورة، لا شخصية بطلة أو شخصية وجهة النظر أو شخصية رئيسة ،ولن أقف كثيراً عند هذه المصطلحات، ولكن حتى ونحن نكتب أبطالنا، نكتبهم محملين بالآلام ونحن بكامل الأناقة والحذر، لذلك يخرج أبطالنا إلى الورق هكذا وفق منطق أسطوري، محملين بالآلام وبكامل الأناقة!. كأننا نكتب عنهم من الخارج، وفق منطق أسطوري بحت، لا نؤنسن البطل “إن صح التعبير”. كأن البطل هو خصمه، لكن ماذا لو كان الأمر كذلك؟ ماذا لو كان البطل هو الخصم؟ وماذا لو كان البطل لا يعرف خصمه؟ أو يحارب أحدا آخر هو غير خصمه الحقيقي!. هذان السؤالان ظهرا معي عندما وصلت إلى الفصل السادس عشر من رواية الفم الكرزي عندما عقّب جواد “بطل الرواية” على انتهاء الحرب العالمية الثانية قائلا: المطاردة، المركب، البحر، الليل، الفجر، الغابة، وذراعي حول خصر يران! أين؟ أين كل ذلك الآن؟!”. قبل فصلين من نهاية الرواية يسأل البطل جواد الصفصافي هذا السؤال، وفي الفصل ما قبل الأخير يجري حواراً مع يران “حبيبته” التي تختتم الرواية بقرارها السفر إلى أرمينيا. بدا لي المشهد وكأن جواداً قد جُرد من كل أسلحته، وهذه الأسلحة ليست إلا أهدافه التي عمل عليها طوال زمن الرواية، وجواد الشخصية البطلة القائد في الحزب الماركسي، الشخصية التي تقاتل من أجل البلد، وتعمل على إقامة التنظيم في منطقة كسب، والتي ترى إلى ما بعد خمسين عاماً -في السياسة الدولية- ومع ذلك تبدو، وقد انتهت الحرب، عزلاء من الأهداف. لماذا هي دون هدف؟ لأنها قاتلت خصما خارجيا، هو الانتداب الفرنسي، الذي كان وهما وتبدد كحال أي عرض من الأعراض التي تصيبنا، الآن -بعد الحرب- رحل الفرنسي ولم يبق أمام هذه الشخصية خصم!. ماذا عن هدفها الداخلي؟ للأسف ونحن نصنع أبطالنا أو أساطيرنا لا ننتبه لذلك!، حتى عندما تحب، نريدها أسطورية!. جواد كان يحب وحبيبته يران، لكن يران تستطيع أن تكون ذاتها، أن تفصح عن مكنوناتها، وأن تقول ما تفكر به، وإن لم نكن كذلك أمام من نحب، فمتى نكون؟!. جواد لم يكن كذلك أمام من يحب، بل بقي القائد، الذي يشك بولاء حبيبته للحزب، عندما تفكر بصوت عال، وبقي القائد الذي عندما جمعته الغرفة بمن يحب، كان الحزب ثالثهما!. “ارتبك، خاف، وضحكت يران بصوت خافت، وقالت له: ما بك؟ اليقظة الثورية أيضا؟، وضع جواد يده على فمه، ضحك مثلها، قال: والشرف الحزبي، فوق هذه أيضا”. بعد هذا الحوار لا أعرف لماذا سننتظر مع جواد قرار يران، القرار الذي ستختار فيه بين وطنها وحبيبها”. كان كل شيء واضحاً، والمضحك المبكي على الشخصية البطلة (جواد) عندما سأله حنانيان: وماذا الآن؟ قال جواد: “سأعود إلى اللاذقية”، لماذا إلى اللاذقية؟ ليشكل تنظيماً للحزب فيها، هذه هي معركته القادمة، وجواد لن يعرف إلا المعارك الخارجية. والحكيم حنانيان، لم يكن حكيماً عندما أعلنت يران قرارها، بل قال مواسيا جواد “لا بأس يا ولدي حكم القدر” المشكلة أن الحكيم حنانيان لم يكن مع جواد ويران في الغرفة في الفصل السابق عندما قالت له: “المسألة يا جواد، أن المنطق جِلْد الانسان، والإنسان يود الخروج من جلده” لكن جواد لم يخرج من جلده، بل وعدها بعد المعركة القادمة، يقول في ص291 ليس من حقنا الآن، أكرر، ليس من حقنا الآن!، أما في المستقبل، بعد المعركة القادمة، فإنه يصبح من حقنا. ولو صح ظني، وكان حنانيان هو حنا وكان معهم في الغرفة، لقال له: معركتك مع نفسك يا جواد… انتبه لذاتك، أنت يا جواد دفعت ضريبة الأسطرة، أننا نريد أن يكون البطل أسطوريا هكذا نريده نحن، لا نريد إنساناً يحيا حياة طبيعية، لا نريده أن يستجيب للغابة التي روضت حتى المهرة مارتانيان ، أو أن يستجيب لنداء النبع كما استجبت انت يا جواد، لا نريد للبطل أن يكون إنسانا، نريده ملاكاً صافياً نقياً . ولو لم يكن حنانيان هو حنا ، وخاب ظني ، وأراد حنا مواساته لقال له :” لا بأس يا ولدي فأنا ولدتك لتحمل رواية المرحلة الخاصة ، في منطقة خاصة .فيها نضال الأرمن رجالاً ونساءً ، هذا النضال كان جزءاً من كل هو الحزب الماركسي ، ولم أجد احداً الا بطل لا يدرك ذاته ” ص٧ من الإيضاح . في الكتابة الدرامية نحتاج لخضم خارجي لأن المشاهد يجب أن يرى خصماً بينما في الكتابة السردية هذا غير ضروري ، فيمكن للقارئ أن يقرأ حواراً داخليا – مونولوج – للبطل مع ذاته إلا أن حنا لم يمنح البطل هذا الشرف ! .. أتمنى ونحن نحتفل بحنا مينه أن لا نعامله كما عامل جواد ، هذا نستطيع أن نضيء التجربة ” تجربة حنا مينه ” إلى حد كبير .

 سلمى حلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار