الوحدة : 12-11-2020
المتابع لموضوع الجسد، وثقافة التّعاطي معه ” تدنيساً أو تأليهاً ” وانشغال السلطات الدينيّة و الاجتماعية التاريخيّة برقابته وتضييق الخناق عليه، ومفرزات هذا الانشغال على المستوى الاجتماعي، ستتجلّى أمامه مفارقة غريبة ، وهي : أنّ ثمّة صمت شبه كلّي وتجاهل غريب، في النّصوص والمرويّات الدينيّة المسيحيّة لمتطلّباته وشؤونه. يرافقه تشدّد في النظرة إلى رغائبه والتّحفيز على قهرها ،بإخضاعها للتابوات والمحرّمات الصّارمة .
يقول ” إنجيل متى ” : ” إنّ كلّ من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها، فقد زنى بها في قلبه “
بينما نرى النّصوص الإسلاميّة أكثر مرونة بمعنى ما. تناقش وتفصّل حتى في أبسط الجزئيّات. بلا أيّ حرج، فلا تُترك شاردة أو واردة تتعلّق بالجسد والجنس ووضعيّات التّزاوج، إلّا وتعرّج عليها. وتستشهد بالكثير من المرويّات التّعليميّة المنقولة عن رموز الإسلام الكبرى . لتجعلها منهاجاً وديدناً يسير عليه المسلمون ، كيلا يضلّوا السبيل .فهاهي نصيحة النّبي محمد” ص ” بضرورة التّروي باختيار الزوجات، حفاظاً على النّسل، مؤكّداً بقوله : ” تخيّروا لنطافكم فإنّ العرقَ دسّاس “. و يروي ” الجاحظ ” في رسائله أحاديث تنُسب للرسول الكريم أيضاً ،تقول : ” تزوّجوا والتمسوا الولد، فإنهّم ثمرات القلوب وإيّاكم والعجز العقر ” ويضيف الجاحظ : ( .. كان من أكثر أهل عصره نساء، كذلك كانت الأنبياء عليهم السلام قبله ) كما رُويَ عن الخليفة الرّاشدي ” عمر بن الخطّاب ” أنّه قال : ( إنّي لأجهد نفسي في النّكاح حتى يخرج الله مني نسمة تسبّحه ) وروي عنه أيضاً : ( عليكم بالأبكار الشّوابّ فإنّهن أطيب أفواهاً وأنتق أرحاما ) ويقول النص القرآني: ( فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن، فإذا تطهّرن فآتوهن من حيث أمركم الله ) و ( نساؤكم حرثٌ لكم فآتوا حرثكم أنّى شئتم ) والحرثُ هو مكان زرعِ الولد ، وإتيان الحرث هو وضعيّات التّزاوج ” قياماً وقعوداً واضطجاعاً وإقبالاً وإدباراً حسب ” تفسير الجلالين ” للشّيخ ” جلال الدين السيوطي” صاحب العديد من الكتب الجريئة في هذا المضمار. كما يُروى عن الرسول القول الشّهير : ” حبّبَ إليّ من دنياكم ثلاث : الطّيب والنساء وجعلت قرّة عيني في الصّلاة ” . مقابل هذا الثراء الإسلامي النّصوصي التّفقيهي بأمور الجنس والزواج والنّساء .تكتفي النّصوص والسّرديّات المسيحيّة بتناول سيرة السّيّد المسيح وحياته وأقواله وأفعاله وصلبه وصعوده إلى السماء،وتتغاضى عن كلّ ما يتعلّق بحاجات جسده أو زواجه أو حياته الجنسيّة كإنسان . علماً أنّ الكثيرين يعتقدون بالطّبيعة الإنسانيّة للمسيح إلى جانب الإلهيّة ؟. فالأناجيل قد ذكرت مواضيع ذات طبيعة جنسيّة وتوصيات لعلاقة الزوجين لكن دون الاقتراب من العلاقة الجنسيّة وخصوصيّاتها . لعلّ ذلك يعود برأي الباحث ” فؤاد اسحق الخوري ” إلى النّظرة المسيحيّة إلى الجسد كجسد مؤلهن؟ وفي الإسلام كـ ” عورة ” فقط . يقول ” يوحنّا ” في رسالته الأولى:( كلّ ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين وفخر الحياة وليس ذلك من الآب، بل من العالم ). إذن ،شؤون الحياة الأرضيّة تختلف عن شؤون السّماء ، ولذلك جاء السّيّد المسيح من العذراء مجسّداً لـ ” الروح القدس “. وقد استعاض الغرب المسيحي عن قصور النّصوص الدّينية المهتمّة بتثقيف المؤمن بحاجات جسده ووظائفه، بإدخال ” التّربية الجنسيّة ” في مدارسه وتعريف الأجيال بكلّ ما يخصّ شؤون الجسد والأحوال الفيزيولوجيّة للمرأة ، واعتبار ذلك شأنا صحيّاً للمجتمع ككل . والغريب هنا، أنّه رغم جرأة المؤسّسة الدّينية الإسلاميّة التّقليديّة منذ مئات السنين بطرح كلّ خصوصيّات الجسد للنقاش ، فإنّ مؤسّسات الدّولة العلمانية الحديثة التّربويّة والثّقافيّة المعنيّة بتنشئة الأجيال في القرن الواحد والعشرين لا تتجرّأ على إدراج مادة ” التربية الجنسيّة ” في مناهجها التّدريسيّة ؟! . ويضرب الباحث ” في هذا السّياق ” مثلاً على ذلك، كتاب ” محمد شريف الصّواف ” وتقديم المفتي ” أحمد كفتارو ” الحياة الزوجيّة من منظار الشريعة الإسلاميّة 1995م ، الذي فُقدتْ طبعاته الخمس خلال نفس العام ،ويستنتج:لو كُتب الكتاب نفسه من منظار العلوم الاجتماعية والإنسانيّة لأثار ضجّة كبيرة !
مابين روحيّة الجسد وجسديّة الرّوح والتّجلّيات الماديّة والمعنويّة، ثمة تقاطعات وإشكالات والتباسات . ففي سورة مريم من القرآن الكريم : ” فإذا سويّته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ” أي لآدم ” و: ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين “. إذا ثمّة تجلٍّ جسديّ للروح يُستدّلّ عليه من معنى النّفخ ، وتحوّل الرّوحي إلى جسدي . كذلك، من خلق الرّوح من الطين كما ورد أيضاً في التّوراة والقرآن أيضاً ،يقول سفر التكوين : ” .. لأنّك تراب وإلى التراب تعود ” ويقول القرآن : ” ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ” . ثمّ تبدأ أدلجة الجسد حسب منبع وثقافة تناوله، دينيّاً أو اجتماعيّاً، لينقسم إلى/ طاهرٍ ونجس / ولتصبح طهارة الجسد مرادفة لنقاوة الرّوح. في الإسلام يطهّر الجسد بالوضوء والصّلاة تقرّباً من الله كذلك الأمر في طقس المناولة المسيحيّة والصّوم يجهّز المؤمن لتقبّل جسد المسيح حيث يتحوّل المؤمنون إلى كنيسة أو مجموعة مقدّسة ، ليتقاطع مفهوم ” الجسد والروح ” مع مدلولات وصفات اجتماعية وثقافية وسلوكيّة عديدة تقسّم المجتمع إلى مراتب كما الجسد . فـصفة ” خفيف الرّوح أو الدّم ” تعني أنّ الموصوف صاحبُ نكتة , وشعارا : ” الحياة وقفة عز” و ” لن نركع ” يشيران إلى الموقف البطولي والشجاع الذي يتّخذه أصحاب المبادئ . وشتّان بين مفهوم الركوع للظّالم بالمعنى التزلّفي أو الرّهابي، والركوع لله بالمعنى الخشوعي والطّقسي. فهي مصطلحات مشتقّة من وضعيّة الجسد ورمزيّته وفلسفة توظيفه . كذلك للمجتمع والقيم منازل حسب تقسيمات الجسد وتفرعاته صعوداً ونزولاً وأطرافاً ،فغرسُ وردةٍ في بوط تحتذيه القدمان، له رمزيّة غير الرّمزيّة التي يعكسها غرسها في خوذة توضع على الرأس. حيث يتمّ فرز الرّفيع من الوضيع والكريم من المدنّس. في المسافة الفاصلة بين الرأس والقدم تتبارى الثقافات في استعراض رموز طهارتها وقيمها العليا والدّنيا عبر توظّيف المفاهيم، وتنتشر الدّلالات المتناقضة والمختلفة لنفس الحالة أحيانا . من يمشي” مرفوع الر أس” هو ذو أنفةٍ وكبرياء ، ومن يمشي منخفض الرأس هو ذليل . صفوة القوم يجلسون في الصّدارة وهي مرتبة الصّدر من الجسد ، وكلمة رئيس هي من رأس، وهي أعلى الجسد، لذلك تأتي مرتبة الزعيم في أعلى الهرم الاجتماعي . وكذلك تأتي صفة الوجيه من الوجه، بينما المنحطّ يوازي القدم . والجلوس في حضرة ذي المكانة الرفيعة إهانة، والوقوف أمام ضريح الشهيد احترام . ثمّ تأتي الحالة الأيقونيّة للجسد ” الصّورة المقدّسة ” لتعليه إلى مرتبة الألهنة، حيث توظّف المدلولات ومعطيات الحواس بشكلٍ مختلف، عبر اللّعب بالأبعاد الجسديّة والألوان وإخفاء البعد الثالث الذي يعكس التّجسيم والإبقاء على الطّول والعرض فقط . ويتشابك المرئي باللّامرئي والمقدّس بالدّنيوي. ،بينما يلاحظ بأنّه لا يوجد في المسجد الإسلامي سوى تزيينات وزخارف بالخطّ العربي وتشكيلاته اللّونيّة ، دون صور أو وضعيّات جسديّة لأنّ ذلك يعتبر عبادة للأوثان . بينما في الكنائس المسيحيّة الشرقيّة ماعدا البروتستانتيّة ، نرى صور القدّيسين والملائكة وصورة السّيّدة العذراء ، وصورة السّيّد المسيح بجسد إنسان مصلوب وعلى رأسه إكليل شوك، والدّم ينزف من قدميه كرمزيّة للخلاص والافتداء البشري . هكذا تتشعّب المفاهيم الثقافيّة للجسد، وتكثر دلالاته الرمزيّة، لتبقى ثقافة ” التّابو ” هي المسيطرة حتى الآن .
أوس أحمد أسعد