العدد: 9303
الأحد: 3-3-2019
هي حركة دائمة للإنسانية ومنذ نشوئها واستمراريتها في حالة من التفاعل العفوي والمبرمج تواكب مسيرها، حين أعطت وتعطي أشكالاً من الحياة على هذا الكوكب، تعددت فيه الأهواء والرؤى وخلقت أجناساً من البشر في طقوس مُعاشة شكلت الطابع العام في مجمله، هذا ما يُدعى أو يسمى بالثقافة، فالثقافة في أصلها كلمة لها العديد من التعرفيات العامة وخاصة في لغتنا العربية حيث أخذت معانٍ متعددة حسب مكانها في الجملة فالثقافة من الفعل ثقف وهي بمعنى أسرع في أخذ الشيء وأدركه وثقف أيضاً بمعنى أدّب وربّى وعلّم وفي تعريف آخر ثقف بمعنى أصبح حاذقاً وفطيناً ملمّاً بالموضوع في كافة جوانبه لذا فالثقافة كلمة عامة لها في كل مجال تعريف كالثقافة الأدبية أو الشرعية أو الطبية أو الاقتصادية أو الفلسفية إلى ما هنالك من مجالات أما في اللغات الأخرى فكلمة ثقافة (cuture) مشتقة من الفعل اللاتيني (colore) والتي تعني الزراعة وأصبحت الكلمة تستخدم للتعبير عن زراعة الأفكار والقيم، لتعطي هذه التعريفات بمجملها نوع من الروح الحقيقية ولتكون هذه التعريفات العديدة إنما نتاج وتأسيس بفعل مجموعة من الأفكار والعادات والتقاليد والقوانين والأعراف مكّونها العام أساسٌ من اللغة والفكر الإنساني تدلّ على المعرفة والفهم في عملية ذات اتجاهين تصبّ في الإدراك والتلقي والفعل من خلال نظم مشتركة تساهم في المحافظة على الأسس للقواعد الثقافية حيث تعمل عن طريق العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والفكرية في خلق هوية مجتمعية واضحة أطّرت المجتمعات الإنسانية في صور متنوعة طبعت معها الشعوب بطابعها وخصائصها، وتختلف طبيعة الثقافة من مجتمع إلى آخر نظراً للارتباط الوثيق الذي يربط الأمم وتراثها الفكري والحضاري اتسمت بشمولية في حصيلة ونتيجة بطرق ووسائل متعددة ليبقى المفهوم الثقافي من المفاهيم المحورية في علم الاجتماع والانتربولوجيا والعديد من العلوم الهامة الأخرى، لأن الثقافة ساهمت في التأثير على الفكر السياسي في الدول الذي انعكس لاحقاً على الحضارات الإنسانية، إذْ غيّرت الثقافة العديد من المجالات الفكرية السياسية كما أنها حافظت على كافة أجزاء المجتمع المكوّن للحضارة إذ لم تتم بتغير الهيكلية العامة للفكر الإنساني، بل ساهمت في تطويره ونموّه بطريقة مستمرة وحرصت على أن تكون شاملة بمعنى أنها لم تغفل أي جانب من جوانب الحضارة بل أثرت فيها جميعاً وبطرق ووسائل متعددة كانت الترجمة العامل الأهم فيها. . .
وإن كان الطابع المعرفي الإنساني وكما يقال أنه دائم التغيير والمعرفة تتغير كل فترة بسنوات عددها عدد أصابع اليد العديد من الأسباب أهمها الاتصال بالثقافات الأخرى، والاختراعات والتطور الثقافي الأمر الذي يؤدي إلى تغيير في الثقافة بمنطقهِ لازمٌ أن يؤدي إلى نمو حضاري للأمم حيث الاختلاف والاختلاط بين الثقافات يؤدي إلى تحقيق وتحفيز اللقاء بينهما في تأثيرات جزئية أو كليّة باعتبارها نمو معرفي تراكمي على المدى الطويل، فهي ليست علوماً أو معارف جاهزة، إنما تتشكل عبر التنشئة الاجتماعية والإنسانية بعمومها.
لكن الثقافة تنمو مع النموّ الحضاري للأمم بشكل طبيعي إلّا أنها قد تتراجع مع مرور الوقت إنْ لمْ تُصان ويُعمل للاهتمام بها الأمر الذي يؤدي إلى غياب الهوية الثقافية، هذه الهوية التي أصبحت تُقلق جميع الدّول وجعلها تستشعر الخطر القادم في زمن ثورة المعلومات والاتصالات أمام هول هذا المدّ من الثقافات المتنوعة المصدّرة بشكل عفوي أو منظمّ، وليبقى السؤال في مدى استعداد وتقبّل الشعوب وخاصة شعوبنا العربية لهذا الكمّ الهائل من الاختراق المعرفي والإنساني المتنوع الأهواء والأشكال والرغبات.
وفي قراءة سريعة لهذا الكمّ الهائل من النوافذ المخيفة والتي سُميت عالمياً (غافام) (gafam) الذي هو اختصار لشركات الويب الأمريكية العالمية الخمس والتي هي غوغل و آبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت، هذه الشركات التي تأسست في الربع الأخير من القرن العشرين وازدهرت وتطورت في السنوات الماضية من القرن الحادي والعشرين ويُطلق على هذه الشركات كلها اسم (الخمسة الكبار) مع العلم أن غوغل تمتلك اليوتيوب وفيسبوك تمتلك شركتي واتس وإنستاغرام ومايكروسوفت تمتلك شركة سكايب، وبين وجهات النظر المؤيدة أو المعارضة فكما وصفت صحيفة الليبرا سيون الفرنسية هذه الشركات العملاقة ب « نقابة الجريمة الرقمية المنظمة» لأنهم يشكلون خطراً كبيراً على الديمقراطيات العالمية.
هذه الوجهات من النظر في رؤية الأمور وتحليلها إضافة إلى العديد من النظريات والدراسات التي تبين مدى الأهمية في امتلاك هذه الشركات لكامل المعلومات الخاصة بالشعوب واستخدامها في تحركاتها الأمنية والاستراتيجية لمجالات عديدة تساهم في خلق حالة غير واضحة المعالم وتترك السؤال عن نتائجها المترقبة وكم الفاعلية المؤثر.
ولعلّ القانون العام للإنسانية في السيطرة والذي يمتلك فيه القوي المال والسلطة والإعلام ليكون الإعلام ضمن هذه الشركات العالمية هو أخطر هذه القوى و أقواها والمقلق في كافة هذه الرؤى هو طبيعة التغير الثقافي في كل ما سبق من عمليات تراكمية معرفية سريعة جداً واختراق أبواب الدول وساكنيها أمام هول هذا المدّ من الثقافات الهادرة العفوية منها والمنظمة والذي تديره أجهزة قوية تخطط لعقود وعقود قادمة هل يمكن أن يوصف العالم الحالي بأنه في حالة مخاض معرفي وفكري في تواصلٍ شكّل العالم على هيئة قرية عالمية، وهل سيلحق العقل البشري بالسرعة الكبيرة للتغير؟ وإلى أي مدى نحن محصّنون بالتّميز بين الإيجابية في التلقي لبناءٍ حضاري مطلوب وما بين سلبياتها المقلقة جداً على صُعُدٍ كثيرة وعديدة. هذا هو السؤال الذي ستُخْبرُ عنه العقود القادمة والشكل المتوقع للبشرية.
سلمى حلوم