وتستمر الحياة وإن نسجها الدمع…

الوحدة 20-8-2020     

 

خربة السريا… خربة الطير.. خربة قيس.. خربة غزالة… خربة….

فكرت هيام في أسماء هذه القرى التي تعلو الحافلات وهي تنتظر إحداها لتعود بها إلى خربة منها…

(ترى أي دمار وخراب أصاب هذه البلدات عبر التاريخ حتى سموها بهذه الأسماء)..

وصلت ساحة الخربة، ودخلت دار عمها لتصطحب الرضيعين اللذين تركتهما في رعاية الجدة ريثما تعود من عملها، لكن زوجة عمها رفضت أن تدعها تذهب قبل تناول الغداء…

رن هاتفها رنيناً ملحاً قطع عليها قيلولة الظهيرة، فتنحت جانباً وردت على شقيقها الذي لاح اسمه كنور في عتمة حياتها:

أهلاً نوح…. ما أخبارك يا أخي؟

قاطعها نوح بأنفاس لاهثة: اسمعي يا هيام.. ما أقوله لك لا تخبري به أحداً أياً كان، جهّزي نفسك والطفلين للرحيل هذا المساء، سآتي أو أرسل من ينقذك قبل أن تسقط الخربة…. الإرهابيون على أبوابكم يا أختاه…. لا تخبري أحداً مهما وثقت به.

انتهت المكالمة بعدما وضعت هيام في دائرة من الارتباك والخوف، ما الذي يحدث، هل ستتمكن من الرحيل قبل أن تعرف مصير زوجها، كيف ستترك عمها وزوجته…. لمن ستتركهما؟ هل ستخفي عنهما أمراً كهذا…؟

لكن نوحاً أكد عليها ألا تثق بأحد.. فالطوفان آت لامحالة.

استيقظت زوجة عمها في الغرفة المجاورة، وسألتها عن هوية المتصل: فأخبرتها أن شقيقها يتصل للاطمئنان، ثم استأذنت للعودة إلى دارها.

أسرعت المرأة بجمع أغراضها المهمة، وضعت من كل شيء زوجين.. الملابس والأحذية…. جمعت المال ومصاغها الذهبي، صورة من زفافها وأخرى من خطوبتها… كانت تنقذ بعض الذكريات على أمل أن تغرسها في تربة جديدة فتنبت أفضل وأجمل من ذي قبل.

سمعت دقات تعرفها على الباب، ارتبكت فماذا ستقول لزوجة عمها إن شاهدت الفوضى في غرفتها؟

أغلقت باب غرفتها واستقبلت ضيفتها دون أن تتمكن من إخفاء  اضطرابها.

تفحصتها العجوز الحورانية بشك واضح، فسألتها: مالي أراك مضطربة يا هيام؟

ردت هيام بتلعثم: لم أرد أن أزعجك لكني رأيت فهداً في منامي، كان كابوساً مزعجاً جداً.

ضحكت العجوز قائلة: لا تخشي شيئاً…. فهد بخير والحمد لله، لقد هاتفنا بعد ذهابك، ويطلب منك الاستعداد لتكوني معه صباح الغد.

توقف قلب الشابة من الخوف والفرح: فهد بخير … الحمد لله، لكنه لم  يتصل بي، أين هو… ماذا حدث معه… هل أصابه مكروه؟

عدلت العجوز من وضعية جلوسها وقالت بحزم: المرأة الصالحة تتبع زوجها وتطيعه في كل شيء، لذلك كوني مستعدة لتكوني مع زوجك في جهاده.

– جهاد….أي جهاد يا عمة؟

الحمد لله الذي أهدى ولدنا لطريق الحق، إنه لفتح قريب ٌ بإذن الله، فهدٌ غدا أميراً وسيأتي مع جماعته لتحرير هذه البلدات كلها وضمها تحت لواء الإسلام.

– عمتي ماذا تقولين؟ فهد ضابط في الجيش لا يمكن أن يخون بلده، لابد أنهم أجبروه على الاتصال بك وقول ذلك…

صدقيني يا عمتي،لا يمكن لفهد أن يصير إرهابياً.

ربما هذا فخ وفهد لم يكن قادراً على تنبيهك، تعالي نهرب قبل وصولهم، لنأوي إلى الجبل مع عمي والطفلين ريثما تتضح الأمور…

ولم تشعر هيام إلا بصفعة قوية على وجهها….وكلمات توبيخ قاسية من والدة زوجها، وهي تحذرها من العصيان…

أخذت منها جوالها وطلبت إليها أن تعد الطفلين لتبقيهما في رعايتها، فتؤدي هيام دورها كزوجة أمير لا يشغلها شاغل سواه.

– اسمعي أيتها الشامية المتحاذقة، لا تفكري في أمر أحمق… بعض من رجال فهد يحيطون بالدار للتأكد من سلامتكم.

خرجت العجوز الشمطاء، وتركت زوجة ولدها تتقاذفها أمواج ونيران وهي تنادي في سرها: إلى أي جبل آوي يا نوح…. وهل ثمة جبل يحميني من غرق محتّم؟

استرقت النظر من وراء الستائر، وبالفعل كان بعض من أقرباء زوجها وأصدقائه يتواجدون هنا وهناك…

لم يكد الليل يسقط على تلك البلدة الصحراوية حتى سمعت هيام طرقات خفيفة، اقتربت بحذر لتعرف من الطارق، فأجابها صوت خافت: نحن قادمان من قبل الضابط نوح، بدلالة اتصاله اليوم بك لتستعدي للرحيل.

فتحت الباب بحذر.. لتشاهد جنديين شابين، عرفا عن نفسيهما  وكان  أحدهما مصاباً في كتفه الأيمن ولكنته ساحلية، أعطاها رسالة عرفت صاحبها من خطه….

دعتهما للدخول واستفسرت عن طريقة الهرب في ظل انتشار رجال حول البيت، فأجابها الجندي الآخر بلهجة حورانية محببة إلى قلبها: للأسف لقد انشق زوجك الضابط فهد وعيّن أمير جماعة إرهابية، وهو الآن في اشتباك مع جنود من جيشنا على أطراف البلدة، لذا لم يتمكن الضابط نوح من القدوم، وأرسلنا لنخرجك من هنا، ولولا خروج رجال البلدة لمؤازرة زوجك ماكنا تمكنا من الوصول إلى دارك لذا أسرعي لنخرج فثمة سيارة بانتظارنا في الجهة الأخرى.

ولم ينته الشاب العشريني من كلامه  حتى سمعت طرقات متتالية.. همست المرأة  بصوت منخفض: إنها زوجة عمي… تواريا عن الأنظار فوراً… كلٌ في جهة.

فتحت الباب متظاهرة بالنعاس، فدخلت العجوز مهللة: فهد وصل وقد خرج عمك مع الرجال لملاقاته ودعمه في معركته ضد رجال النظام…. هاتي الطفلين بسرعة وتجهّزي لنذهب للدار.

ردت هيام بتلعثم: حسناً سأفعل…

واتجهت نحو غرفتها بتباطؤ، بينما انشغلت العمة بتتبع خيط رفيع من الدم نحو المطبخ، وأخرجت سلاحاً كانت قد أخفته في عباءتها لتفاجئ الجندي المصاب برصاص غادر، ثم هجمت عليه بسكين تناولته عن طاولة جانبية ولم يوقفها سوى رصاصات جاءتها من الجندي الآخر.

لم تستوعب هيام الوحشية والحقد اللذين ظهرا على حماتها دفعة واحدة، واستغربت أين خبأت ذلك خلال سنوات طويلة.

اقتربت مذعورة من الجثتين، والتفت إلى الجندي الآخر الذي بكى رفيق دربه ثم اتفقا بنظرة واحدة أن لا مجال للانتظار لحظة، فصوت الرصاص لابد أن يجذب الناس إلى دارهم.

وهكذا وجدت المرأة الشامية نفسها مع الجندي حمد وطفلين صغيرين يشقان ظلام ليلة صحراوية دون أن ينظرا وراءهما أو يعلما ما قد يطالعهما…

وظلوا هكذا قرابة ساعتين إلى أن سمعوا أصواتاً صادرة عن سيارة تسير بأضواء خافتة، اكتشف حمد بسرعة أنها تابعة للإرهابيين تبحث عن هاربين، لذا همس في أذن رفيقته: سيمسكون بنا لامحالة، وقد وعدت شقيقك أن أصل بك بر الأمان… لي في ذمة الإرهابيين دين، لقد دمروا خربتنا وقتلوا أفراد أسرتي لأني أخدم جندياً في الجيش، لذا سأخرج إليهم وأفجر نفسي بينهم بقنبلة أحملها وهكذا أمنحك فرصة الهرب.

اتجهي نحو الشمال دوماً ثمة شاحنة بيضاء  ستقلنا حسب الاتفاق….

اذكري اسمي كشهيد حق في هذا البلد (حمد أحمد الجاسم) هذا كل ما أرجوه منك.

 أعطاها هاتفه ولم ينتظر ردها المختنق بالدموع، بل التف حول السيارة من الخلف، وتلقى عدة رصاصات لحظة وصوله الانفجاري الذي خلف ضباباً كثيفاً ً سهّل هرب المرأة وطفليها نحو جبل قريب.

شعرت بالتعب والجوع والخوف لكنها خرجت من دارها لا تحمل شيئاً مما أعدته للرحيل، لقد تركت هناك كل حياتها وذكرياتها حتى هويتها الشخصية ولم تحمل سوى حقيبة صغيرة للرضيعين.

 وبعد ساعة وصلت سيارة شحن بيضاء متوسطة الحجم، اقتربت منها كفاية لتشاهد فيها نساء باكيات مع  صغارهن، وجنوداً جرحى..

لقد بدت السيارة أشبه بسفينة ضخمة تشق أمواج الليل بحمولتها الكبيرة وهي تخشى الغرق في المجهول.

انضمت هيام وولديها إلى الجموع المتألمة المتأملة، وضاعت آهاتها في زحمة الأوجاع وصراخ أطفال وجراح… هل حقاً فعلها فهد؟ هل خان وطنه، هل خان حبه، هل فقد عقله… أكان سيقبل أن يجاهد بها ويتقاسمها مع غيره من رجال جماعته؟!

أسئلة كثيرة ظلت معلقة مع أسماء الخرب والخراب الذي طوق المكان..

رن هاتف الجندي حمد في يدها ،كان المتصل نوحاً ،حدثها بهدوء مرعب لايتناسب والوضع العام ،كان يحاول تهدئتها ويوصيها بالتوءم …

جمعت قواها وسألته: هل أصبت يانوح….؟!

تعثر في إقناعها بالنفي ، فتابعت : إصابتك خطيرة أليس كذلك؟

أجابها الضابط الذي جهد ليظل متماسكاً فلايظهر أوجاعه أمامها: إصابتي بليغة ..ونحن محاصرون ..وفهد بلاشك لن يغفر هروبك ،لذا لن اسمح له بالقبض علي حيا ً….أنا أضع الشهادة بين عيني وسأثأر لدماء جنودي التي أريقت هنا،لذا امضي دون أن تلتفتي وراءك يوماً .

وانقطع الاتصال وسط نحيب المرأة وجزعها..

تكومت على نفسها وضمت الرضيعين اللذين تمنت لو تحصل على نبتة الخلود يوم ولادتهما ليعيشا أبداً ،وهاهي تجهل اليوم إن كانا سيحملان بذرة الشر من والدهما،…ماذا ستفعل ؟

أتعود إلى قريتها لتحمل وطفليها ذنب والدهما ،أتزر وازرة وزر أخرى؟

وإن رحمها أهلها هل سيقبلون بتربية أبناء من كان سبب في قتل ابنهم نوح ..

على مشارف دمشق انتهى مخاض حيرتها،وفي قسم الإسعاف في المشفى كانت هيام قد أصبحت هنداً ،والرضيعين  حملا اسم حمد الجاسم كأب مشرف لهما،يستحق أن يعيش اسمه ويستحق طفلان بريئان أن يعيشا في ظله .

فتحت الحقيبة التي بين يديها كان  مصاغها الذهبي والمال الذي جمعته من رواتبها بين ملابس الولدين ،لم تذكر أنها وضعتهما هنا ، كانا في حقيبة أخرى..من يدري لعلها هدية من السماء وجودهما في هذا الوقت.

ومن المشفى بدأت حياتها الجديدة وركبت فلكا ً أخرى باتجاه الساحل هناك حيث لايعرفها أحد ، ولم تلتفت يوماً وراءها فثمة رسالة عليها أن تؤديها كما وعدت نوحا.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار