زهرة الريح لـ (بديع صقور) تضجّ بالحبّ والجراح

الوحدة: 28-6-2020

 


 

هذا الكتاب ضاج بالعناوين والحكايات والمغازي والآلام والجراح والقهر والحب لذلك سأختار بعضها عشوائياً علها تكون باباً لقراءة وجدانية ليس إلا، ففي كتاب وجداني ضخم كهذا لن أبحث عن هفواته بل قلبي وعيني دائماً على إنسانيته الباذخة، ومن هذه العناوين: (بغداد مكان جيد للقتل) وفيها حديث عن المذبحة الشهيرة العامرية ويذكر الشاعر قولاً لجنرال أمريكي: كم هو ممتع قتل الإنسان في أفغانستان والعراق، وأنا أضيف: وفي سورية ولبنان وأي مكان يصله إجرامهم.

فوضى الرمال حديث وشعر في ليبيا و(طز في أمريكا).

خربشات على جسد آيا صوفيا في استنبول التي حولت إلى مسجد رسالة إلى كل من تشبه زهرة الريح – الغريبة آلهة الخوابي – أشرعة الشمس عن عمريت – وليس للروح من كفن عن عشق الوطن.

أوابد الرباب وياريل صيح بقهر ياريل صيحة عشق يا ريل.

– صدى وعلى البال بعدك يا سهل حوران.

– نار على قاسيون

– نبع السماء بوابة الياسمين رسالة من برلماني سوري إلى البرلمانيين المجتمعين في كيتيو الأكوادور عن الحرب على سورية.

– شارع القرنفل قصيدة عن الموالاة والمعارضة وقلب الشاعر ينزف دماً أكتفي بهذه العناوين وأعود إلى قراءتي.

زهرة الريح… وتبقى الجبال

أبدع رائد خليل في لوحة الغلاف حيث الغيوم والحزن والضبابية ومسافر اختفت ملامح وجهه لكن نبتت له جذور فتجذر في زهرية الريح قريته وكل قرية من قرى الوطن، وطائر النورس وحيد في هذا الجو العاصف أو هذه الحزينة المسماة حياة.

يهدي بديع صقور سفر حياته وسيرته الذاتية إلى أبويه علي وضعون وإلى زوجه وأولاده وإخوته وأصدقائه وأحبته وإلى الطيبين الذين مروا على بساتين الأيام ومن هنا تبدأ المذكرات في قريته حيث النور الأول والطفولة العذبة والمعذبة الفقر والجوع والضنك والطرق المسدودة في الأفق وعلى الثرى ويستعير من (جمهورية الله) لعبد الرزاق الجبران قوله: بني… الحياة التي لا تعطي لكوخنا باباً كيف تريدها أن تعطي لأقدامنا دروباً!!

منذ أن لقبته أمه (عود القصب) في طفولته الأولى بسبب ضعف بنيته وهزاله يأخذنا البديع صقور في رحلة حياة استمرت على مدى ستمئة وسبعين صفحة وزيادة ما بين نثر وشعر وكلاهما أقرب إلى الشعر بسبب هذه المشاعر الفياضة النبيلة الصادقة والحزينة بآن معاً.

على وقع أنغام موجة أرتشف نبيذ غربتي

لكم أحزاني أمسح دموع الفراق التي لا تجف

وتتميز كتب السيرة الذاتية ومنها مسيرة حياة الشاعر بديع صقور بالخبرة والمعرفة والمتعة والصدق لذلك فهي تشد القارئ حتى آخر سطر فيها وقد برزت من كتب السيرة ذات المصداقية العالية سيرة ما لوم إكس لألكس هالي الأمريكي صاحب (جذور) وسيرة حياة دوستويفسكي ورحلتي الطويلة من أجل الحرية لنيلسون مانديلا و (حياة قلم) للعقاد وماذا علمتني الحياة لجلال أمين وجيفارا مذكرات عن الحرب الثورية والأيام لطه حسين وغيرها كثير وفن السيرة قديم عرفه العرب منذ الجاهلية وشهد تطورات مع مرور الزمن وبرز في أنواع كثيرة كالتاريخ واليوميات والمذكرات والرواية والقصة والاعترافات والسيرة الغيرية، والسيرة لغة هي الطريقة أو السنة يقول خالد بن زهير:

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها                            فأول راض سنة من يسيرها

ولا شك أن كاتب السيرة سيتحمل تبعات صدقها وجرأتها التي قد تتجاوز المألوف في أحيان كثيرة وزهرة الريح تمثل المذكرات خير تمثيل ولاسيما أن كاتبها امتلك ذاكرة وقادة أعادته إلى الطفولة واليفاعة والشباب ومن ثم كرجه في بقاع الحياة كبيراً وشاعراً ولهذا غلبت الشاعرية عليها فاتسمت بها فالزمن فوضى للذكريات والذكريات جروح والجروح حروب والحروب مصائب وكلما انقضت مصيبة اشتعلت حرب.

يعبر الشاعر منذ البداية عن كينونته الإنسانية ملخصاً حزنه وغضبه في آن معاً: تمرغوا في التراب والطين.. طاروا… طاروا ثم سقطوا في قبورهم الموحلة.. أبيدت شعوب وأحرقت شعوب باسم الدين والله باسم الحرية والعدل والحب والسلام.

تخاطبه أمه: مددتك نحيلاً كعود ريحان ذابل

هززت السرير وغنيت لك حتى استسلمت

من الملاحظ أن شاعرنا يستخدم كلمة ريح كثيراً فيما كتب بدءاً من زهرة الريح مروراً بتخوم الريح وبساتين الريح حكايات الريح وليس انتهاء بلآلئ الريح وكأني به يقول هي الريح ستأخذ كل شيء و (هي الدنيا يا ولدي منذ أن يولد وإلى أن يرحل عنها، وهي تنهشه) فالحياة لديه وحوش كاسرة تنهش اللحم والعظم يقول: نركض ونركض وليس إلا كسرة خبز وغفوة قبر يضج الحزن في هذا العمل والحزن نبل وتحرر وشفافية وسمو:

وككل الحالمين الأنقياء ظل حبله السري معلقاً بأمه هي عقدة الالتصاق الذي لا فكاك منه والأم هي الأرض وهي الوطن والحضن الذي لا دفء سواه.

– إمي شو يعني رئيس؟ تجيبه:

– ضب لسانك لا بقا تعيدا هادا الرئيس أوعا يا بني تسأل هكذا أسئلة والله بيخربوا بيتنا إذا ما عرفنا شو هوي الرئيس

وكم تمنيت لو أنه أبقاها على عاميتها وصدقها الفنيين لكان ذلك أبلغ وأقرب إلى النفس.

في أرض الجوع والحرمان والفقر لابد من الهروب والرحيل وكانت (أميلكا) أو (أمالكا) وجهة رحيل جده محمد وكثير من الشبان الذين راحوا وماتوا هناك أو ابتلعهم البشر من أرض الجندرمة يساق الشباب عنوة إلى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل لذلك رحلوا، يقول جده: ليتني لم أعد كانت الحياة مستقيمة على تلك الأرض لكن في الأرض الغريبة تبقى فيها غريباً ولابد الغريب من الرجوع وأحياناً يقول الكاتب يصير الإنسان في وطنه غريباً وكأنه غصن مقطوع من شجرة.

والظلم من شيم النفوس فإن تكن      ذا عفة فلعلة لا تظلم

تلك حال أهل زهرة الريح وكل أهل زهرات الريح: ظلم في البيت الذي يدلف شتاء ظلم في الطريق الترابي الطيني الواصل إلى الحقل والبيدر والمدرسة ظلم في ندرة الطعام وقلته وفي الثوب الدافئ والظلم الأكبر من الجندرمة والشوق وجبهات القتال في الحرب الأولى حيث هرب الشباب واختبؤوا في الأودية وخلف الصخور ولم تسلم الزهرة من (الشتى) جماعة اللصوص وقطاع الطرق فقد هاجموها ونهبوها وأحرقوها وفرضت الميرة على رقاب العباد.

تقول سته أم شعبان: المهاجر قد يعود.. الميت أبداً لا يعود.. يجيبها: صار عندنا آغاوات وخواجات وموجات الحروب والقهر والظلم لا تنقطع, مضرمو الحروب والنيران على هذه الأرض لا ينقطعون وكالفئران يتوالدون, وكأني بالشاعر يصرخ وجعاً وحنقاً: أليسوا من البشر أولئك الذين أشبعونا فيها حروباً وقتلاً وظلماً وجوعاً.. من زرع دروب الحياة أشواكاً وحراباً وسكاكين؟ إلى أين سأطير وأنا لا أمتلك سوى هاتين القدمين الحافيتين؟! ياه كم أنت جائر يا قهر؟

 أينما توجهت قبلتك الأحزان والخوف وطبول النحس. الأغاني حزينة . الرقص حزين والفرح حزين. مواويلنا دائماً عن السفر والراحلين والقبور ، أعراسنا موشومة بالحزن, وأبواب الأرض مفتوحة على المصائب حياتنا أضيق من قبر.

في هذا السفر الجليل تحدّث الشاعر عن كل مراحل الحياة ولذلك كانت موضوعاته كثيرة بدءاً من القرية الصغيرة التي ولد فيها إلى تلك البلاد التي زارها وسكن فيها ولا سيما في تشيلي حيث بقيت أثارها موشومة في قلبه وفي شعره واستطاع بصدقه أن يسمها في قلبي أنا لذلك أستطيع القول إن هذه القراءة قراءة محبة بعيدة عن النقد والتشريح العلميين وأنهي بقوله في الصفحة 666.

وآخر الأسئلة يا طفل الناي الحزين يا عود القصب

لك أن تستحضر سؤال أمك

– ما الهينُ يا ولدي وما الصعب عليك

– الهين يا أمي قطفُ غيمة والصعبُ يا أمي قطفُ رغيف

وضباب على روابي الأيام.. ابتعدت الغيوم والغزال على وشك أن ينام – احترق الرغيف واحترقت أصابعي

انكسر ناي الطفل الحزين يا عود القصب

وقد أثمرت السبعون من السنين

وحان القطاف والثمر قبض الريح

والحياة كلها أيها الشاعر العذب قبض ريح.

سهيل الديب

تصفح المزيد..
آخر الأخبار