من ملف الحياة

الوحدة: 17-6-2020

دأب الإنسان على مر الزمن يفتش عن حقيقة الوجود وماهيته ونشأته ومآله ويبحث عن سر الحياة والهدف منها، البشر يعيشون فوق كرة لا تعادل في حجمها ذرة رمل إذا قورنت بحجم الكون الذي تشكله آلاف المجرات بملايين كواكبها ونجومها، قبل بضع مئات من السنين اعتقد البشر أن هذه الكرة هي محور الكون وأساس وجوده ومركز فلكه وكل ما في الكون إنما وجد فقط من أجلها ومن أجل ساكنيها واليوم يتحدث كثيرون عن نظرية تعدد الأكوان ما يجعل وصف الأرض بذرة الرمل مبالغةً وتهويلاً في حجمها وتأثيرها ومع ذلك يبقى السؤال عن ماهية الحياة والهدف منها ومآلها شاغلاً لفكر البشر وماثلاً في أذهانهم جميعاً على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وأعمارهم ومستويات تفكيرهم… لماذا نحن موجودون فوق هذه الأرض لماذا نسعى في مناكبها ونجري جري الوحوش ما دمنا في النهاية سنضحي تراباً في هذه المناكب؟.

للإجابة عن هذا السؤال لجأ الإنسان إلى السماء ووجد في مُنزَلِ أديانها ما يشفي تغول الحيرة في نفسه، إله الكون خلقنا وأوجدنا من أجل أن نسعى في الأرض ونعمرها والمكافأة بعد الموت خلود أبدي بغض النظر إن كان هذا الخلود ثواباً في الجنة أو عقاباً في الجحيم وفي هذا اجتهد المجتهدون ففسروا وأولوا واستدلوا واستنبطوا وكان النتاج آلاف المجلدات من تراث قديم متجدد يزداد تفصيلاً وتفرعاً وتشعباً رغم أن الإله واحد!.

الإنسان بطبعه وعادته لجوج لحوح لا يثبت على رأي ولا يتوقف عند موقف لذلك لجأ في قرون الزمن الأخيرة إلى العلم الأرضي ووجد في علوم المستحاثات والوراثة والجينات ما قد يفسر حيرته…نحن وجدنا فوق الأرض لأن ظروفاً طبيعية ما أتاحت للحياة أن تنشأ فوق هذا الكوكب بالذات فولدت الخلية الأولى وتوالدت ومنها نشأت أول الأحياء وتطورت تطوراً انتخابياً مع الزمن وصولاً إلى صيغة الحياة الحالية ببشرها ونملها وفيروساتها وفي ذلك اجتهد المجتهدون فبحثوا واستقصوا وجربوا وحللوا وكان النتاج آلاف المجلدات من حصيل علمي قديم متجدد يزداد تفصيلاً وتفرعاً وتشعباً رغم أن الخلية الأولى واحدة!.

في هذه الحياة لا توجد حقيقة واحدة مطلقة لا يختلف عليها اثنان في الماضي والحاضر والمستقبل إلا حقيقة الفناء. كل شيء فان وزائل ولا يوجد شخص واحد دحض أو يستطيع دحض هذه الحقيقة التي أجمعت عليها كل الأديان السماوية والأرضية على اختلاف مصادرها وكل العلوم القديمة والحديثة على اختلاف مجالاتها ويبقى ما بعد الفناء لغزاً محيراً تطفئ مرارتَه حلاوةُ المعتقد والإيمان ويخفف العلم بنظرياته وأبحاثه لوعتَه.

الكون برمته سائر في النهاية نحو الفناء ونحن البشر سائرون معه إلى نفس المنتهى، لكن الإنسان مجبول بحب الشهوة والسلطة والمال وحب البقاء سواء كانت هذه الصفات مكتسبة عن طريق التطور بعد تكون الأحياء من الخلية الأولى أو كانت متأصلة في النفس البشرية منذ اللحظة التي قتل فيها قابيل هابيل، في واقع الأمر هذه الصفات بما ينضوي تحتها من شر وآثام هي جزء ثابت بل وأصيل في النفس البشرية وما شهده التاريخ ويشهده من حروب وصراعات واقتتالات ومجازر ومطاحنات ما هو إلا أحد وجوه ترجمة هذه الصفات وأخلاقها شئنا أم أبينا والحياة مستمرة يتكرر تعاقب الأحياء في إطار مسيرتها نحو الفناء أجيالاً بعد أجيال لذلك يتوجب على الإنسان وهو يمارس حياته ألا يوجه تفكيره نحو الفناء بقدر ما يوجهه نحو استمرارية الحياة التي هو عنصر فعال فيها وبالتالي لم يعد السؤال لماذا نحن موجودون في الحياة هو الأهم، كيف نصوغ وجودنا في هذه الحياة أضحى هو السؤال الأهم ، كيف نعيش أهم من لماذا نعيش، اجتهد المجتهدون في هذا الأمر فأنتج الفهم الخاطئ لمقاصد الأديان وحوشاً بشرية هرولت بالحديد والنار إلى الموت معتقدة أنها تستشهد في سبيل الخلود وأنتج الفهم الخاطئ لمقاصد العلم أنواعاً من أسلحة الدمار الشامل تعجز حتى الشياطين عن مجرد تخيلها وكانت نتيجة خطأ الفهمين كارثية فالعالم اليوم يعيش في مستنقع تفشت فيه أوبئة السيطرة والاستعلاء والاستعمار والاضطهاد والعنصرية وبقاء الأقوى بينما ظلت شعارات الإنسانية والتآخي والسلام وحقوق الإنسان حبراً على ورق رغم تفاني المناضلين في سبيلها.

يبدو أننا في حاجة إلى تجديد تعريف الحياة ومفهومها، يبدو أننا في حاجة إلى الإجابة عن السؤال الأكثر أهمية: كيف يتوجب علينا فهم الحياة؟ عندما نجيب كبشر عن هذا السؤال فعلاً لا قولاً تضحي الحياة وجهاً من أوجه استمرار السعادة وتعاقبها لا مجرد رحلة إجبارية نهايتها الفناء.

شروق ديب ضاهر

تصفح المزيد..
آخر الأخبار