الوحدة : 24-4-2020
للخط العربي حضور قوي في الجمال الفني البصري الذي يأخذ بعده الأساسي من تشكيل الحرف، فاللوحة الحروفية لها بصمة تشكيلية خاصة وصبغة تراثية نفخر بها، قادرة على النطق بأسلوب تشكيلي جاذب، تظهر تغلغل الذهنية الهندسية في بناء اللوحة التشكيلية، وتداخل الأشكال المختلفة..
هناك علاقة وطيدة وجدلية بين الكلمة والصورة في التشكيل السوري، وفنانون أوصلوا هذا الفن إلى مراتب عالية، وساهموا في انتشاره، حول هذا الموضوع تحدثت الدكتورة نجوى أحمد والتي قالت: عاصر الفن السوري ومنذ بداياته في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين جميع مدارس الفن التشكيلي الحديثة التي نقلت الأشكال في صيغتها الواقعية والمحاكاة إلى التحوير والتبسيط وصولاً إلى التجريد وفن اللا واقع، وخلال هذه الفترة كانت كل الصيغ الفنية في العالم قد وصلت إلى خميرة إنتاجاتها المبتكرة التي تسربت خارج حدودها باتجاه البلاد العربية مما جعل الفنان العربي أمام خيارات عديدة مختلفة تنقّل عبر أجوائها بسرعة ورهافة حسّ بعد أن امتحن إمكانياته وقدراته الفنية الكلاسيكية والأكاديمية، وربما وجد الفنان السوري في الصيغ الحديثة المحورة والمجردة ما هو أقرب إلى ثقافته الفنية المتوارثة مما جعل مسألة عصرنة الفن التقليدي مهمة سهلة لديه أوصلته إلى طريق تعريب الفن المستورد ببساطة لا سيما أن الخوض في مسائل التجريد والتحوير كانت من أصول فنّه وثقافته التي نهل منها الغرب، وهناك علاقة تاريخية هي علاقة الكلمة بالصورة، إذ تطورت الصورة إلى خطّ، ومن ثم تبيّنت العملية العكسية في الزمن المعاصر حيث بدأ الخط يتجه نحو التشكيل الفني التصويري، فمسألة التفاعل بين الكلمة والصورة بقيت دائمة الأخذ والعطاء.
للخط العربي أسلوبان رئيسيان: الأسلوب الجاف وحروفه مستقيمة ذات زوايا حادة، والأسلوب اللين وحروفه مقوّسة، عرف الأول بالكوفي والثاني بالنسخ، ثم ابتكر المسلمون أنواعاً جديدة نمّت عن مطواعية الحروف العربية وتقبلها للعديد من الأساليب، كما نمت عن مقدرة الخطاط العربي على الإبداع والابتكار، فأضحى الخط العربي فناً إبداعياً بذاته، له مدارسه واتجاهاته، وله مبدعوه والموهوبون فيه مما جعله أغنى مظاهر الإبداع، وجعل منه فناً صعب المنال لاحتياجه إلى المواهب الذاتية، هذا ما دلّ عليه عدد المصورين الذين كان ولا يزال أقلّ بكثير من عدد الخطّاطين، على أن الفنان السوري قد انصرف في بعض تجاربه عن الخط الكلاسيكي إلى الخطّ الحرّ، ووظفه في أعمال تشكيلية مسؤولة خلق عبرها فناً له خصوصية محلية وهوية عربية قومية وضعت حداً للفن المجرد الخالي من الملامح البيئية، ولا بد من ذكر أن اختلاف أساليب استخدامات الحروف العربية في التصوير عمل على تباين تيارات نستطيع تحديدها بثلاثة: الأول استخدم الخط بشكله الكلاسيكي والنمطي المعروف من فارسي وديواني وثلثي…، والثاني استخدمه دون التقيد بقواعده وأبدع خطاً آخر حراً وخاصاً، أما الثالث فقد دمج بين الاتجاهين وأضاف عناصر أخرى كالزخرفة، وأطلق على المجموعات التي تبنت استلهام الحرف العربي اسم (الحروفيين)، وولادة الكلمة أو العبارة في اللوحة كانت مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وإن كان ازدهارها بالمعنى التشكيلي أتى متأخراً مع نهاية الخمسينات وبداية ستينيات القرن الماضي (أبو صبحي التيناوي) على يد أدهم إسماعيل في مجموعة لم يستمر فيها تاركاً المجال أمام زميله محمود حماد الذي نالت معه (الحروفية) الحظ الأوفر في تجاربه، كذلك كانت أعمال سامي برهان بحروفية شملت النحت إلى جانب التصوير، وحملها رسالة إلى خارج بلاده ينشرها بأمانة تمثل قدرات الفن السوري على خوض تجارب الحداثة والمعاصرة دون العبث بثبوتية الأولوية البيئية والخصوصية المحلية.
مع هؤلاء الفنانين وغيرهم تمّ إدخال الحرف العربي وعباراته إلى التصوير المعاصر بقوة وثقة عبر تطورات في التجارب بدت في أولها تكوينات تصويرية تشخيصية، ثم تمّ الاستغناء عن الصور المرئية والاكتفاء في تكوين اللوحة بالجمل والحروف كما فعل محمود حماد وكذلك سامي برهان الذي دمج حروفه في تشكيلات لونية ذابت فيها لتبدو في لغة جمالية إسلامية لم تكن زجاجاً ملوناً ولا حتى قطعة فسيفساء في التجربتين السابقتين، كان توجهاً واضحاً عن تآلف العلاقات الشكلية واللونية المحصنة التي أساسها الحرف، حيث بدت في أولها مقروءة ثم انصهرت في بوتقة العمل الفني لتصبح جزءاً معاصراً يحمل قيماً لثقافة محلية نفخر بها جميعاً.
رفيدة يونس أحمد