الانتظار..

العدد 9541
الاثنين 2 آذار 2020

 

لم يفرح يوماً في حياته كما فرح حين وصله قرار تسريح مجموعة من جنود الجيش العربي السوري هو واحد منهم، هكذا قال بعد تسريحه في اللقاء الأول..

كل الأمل كان يحمله بعينين تلمعان بقوة، ضحكته المجلجلة لا تعرف الصمت، ولسانه لا يسكت: خطط وآمال، ومشاريع مستقبلية، اليوم بدأت الحياة.
سنوات طوال ذهبت من العمر، يريد أن يعوض ما فات..
بعد سنة، كان اللقاء الثاني، كان هادئاً صامتاً، لا يعرف ماذا يفعل، هكذا كان جوابه على سؤال تقليدي: كيف الحال؟
الفرح الذي رأيته في المرة الأولى رحل، تلاشى، وكل حديثه الذي استمر لساعة كاملة كان عن خيباته..
لم يجد عملاً، لم يفعل شيئاً، ملل كان اللقاء لولا الحديث عن ذكريات أيام الجيش الجميلة!
كان محارباً بطلاً، صنع مجداً لنفسه ما يزال رفاقه يتحدثون عنه، وهو يدافع عن الوطن في النقطة التي أوجدته فيها أقداره، لم يرسم، لم يخطط، هي الأقدار حملته إلى كل شبر من سورية.
بات يعرف كل المدن، والريف السوري، يحفظ الأسماء مثل اسمه، كل شبر، المشافي، الساحات، الطرق العامة، الجبال والوديان، ويعرف التفاصيل، المعارك، وحتى التواريخ.
هو ابن طرطوس يعرف حمص شارعاً شارعاً، وحارة حارة، وكل القرى في الجغرافيا الواسعة، ويتذكر الوقائع منذ أول حادث..
كل الأماكن هنا، يقول، وهو يضرب على جبينه بإصبعه القوي، ويتذكر تلك الصبية التي أحبها من حمص، ويحكي مبتسما كطفل مدلل كيف اتصلت به يوماً وأعادت الاتصال مراراً وهو العاجز عن الرد، في موقع لا يستطيع الرد على هاتفه الجوال وحين أصرت، خاف، ظن أن الأمر جلل، صنع الظرف المناسب بقوة، وتكلم معها.
قالت: أريد أن أراك الآن لأمر ضروري.
ولأن قلبه يشتعل كرأسه، كأفكاره المتقدة، عاد إليها من منتصف الطريق إلى الريف البعيد.
كانت تحمل كيساً من فحم، وتقف بجانب كومة من حطب، جمعتها له ليتدفأ هناك في البعيد حيث البرد الشديد، برد حمص قارس لم تتعود عليه بعد، كان هذا تبرير فعلتها!
يحكي الجندي القديم، وعيناه تدمعان، وبألم قال: ما عشت لن أنساها، لكنها رحلت، لا أعرف عنها اليوم شيئاً!
يعيد الجندي السابق ذكريات الأمس، ويؤكد أن الحياة هناك كانت أقوى بل أجمل، ذات طعم حار، ولذيذ.
قال: كنا نصنع المستحيل لنبقى، نلمسه بأيدينا، نأكل منه، ونتنفسه.
كنا فريقاً، عشنا جماعات، ولم يفرقنا إلا الموت الغادر، رصاصة سبب، تفجير سبب آخر، والتسريح اليوم سبب.
قد تكون الحياة مسرحاً ونحن ممثلون، قد تكون غابة، أو حضناً دافئاً، أو قلباً يسع الكون، قد تكون ذئباً ينقض عليك لحظة ضعف، وعلى حين غرة.
ماذا أفعل؟ يسأل الجندي نفسه بصوت مجلجل، يرد الصدى، ماذا أفعل؟
ويتابع: لفظتني الحياة، ولفظني الموت.
لو كنت شهيداً لامتلأت الشوارع بصوري، وقد يكتب اسمي فوق لوحة عند باب مستوصف أو مدرسة، لوحة قبيحة لا تترك أثراً إلا لمؤرخ.
لو كنت جندياً، كنت بطلاً في العيون، وألماً في قلوب أحبتي، آلة تصنع الحياة لي ولمن حولي.
اليوم أقف عند حدود الزمن الممل، أطمئن أحبتي ومن كان يتصل بي سابقاً،
لم يعد هاتفي يرن، استخدمه للبحث عن وظيفة شاغرة، وللتواصل مع أصدقاء الفيسبوك الذين لا أعرف معظمهم إلا بالصور التي غالباً ما تكون وهمية، وأجهد في البحث عن عمل لأعيد ترميم ما تحطم.. وأبتسم.

سعاد سليمان

تصفح المزيد..
آخر الأخبار