الدفــــا عفــــا والــبرد شــــدة …

العـــــدد 9531

الثلاثاء 18 شــــــباط 2020

لقد اشتدّ البرد علينا وتكاثفت غيوم متاعبنا التي حجبت شمس شباط عن نوافذنا، وعلّقت ربيع أيامنا خلف الباب، لننحشر في بيوتنا مع أطفالنا الذين انقطعوا قسراً عن مدارسهم وجامعاتهم، ولا يخرج أحدنا إلا للضرورة القصوى أو لأرزاقنا ووظائفنا (فالبرد برا بقص المسمار)، وبتنا نتقصى أخبار الأحوال الجوية من عواصف وأمطار وأجسادنا قد وصلنا بها على الأرائك في غرفة الجلوس لنتلحف بغطاء أو بطانية ولحاف، فتكاليف الحياة زادت علينا بحمولة المازوت والغاز والكهرباء، فلا تنفع للتدفئة في مثل هذه الأيام غير النار والحطب وهذا صعب ومحال في الأبنية السكنية، أما (صوبيات الغاز) فعلى قلة الغاز، فهي أيضاً تسرّب بعضه لننفض من حولها، أما الكهرباء فبعيدة عنا والتقنين جار على قدم وساق وتراها ومضة نجم هارب من كبد السماء، فما لنا غير ارتداء كل ما في خزاناتنا من لباس فذلك أخف على الجيب وأوفر، كما لنا أن نتذكر رجال جيشنا الأبطال في الجبهات وساحات القتال لنلجم لسان حالنا ونخجل، ولنشعر بنار انتصاراتهم ومواقدها فيدب الدفء في قلوبنا والسلام.
* أبو حسن تجاوز التسعين وثلوج العمر تكسو شعره لكن الصحة تمام والحمد لله وينزل إلى المدينة دون مساعدة من أبنائه أو أحفاده كما قال: مضى زمن طويل على مثل هذا الشتاء القارس، لم أر كمثله غير فيما مضى حيث كان الزمهرير يتدلى على أغصان الشجر نكمشه ونضعه في الإناء على الموقد لاستخدامه في الشوربة أو يوضع في جرة الماء لشربه، إذ لا تستطيع المرأة أن تخرج من البيت وتقصد العين وتجلب الماء، كان الجيران يتحلقون حول موقد النار (الوجاق) الذي يأكل الحطب أكلاً والحطب يصعب جلبه من الجبل وما كان ليسد رمق عيشنا وحاجتنا، ما كنا نقصه من أشجار حقولنا خلال أشهر العام نخزنه لـ (شتويتنا)، ذاك الشتاء كان يقال عنه شتاء وليس ما أتت عليه كل تلك السنوات التي مضت إلا أن شتاءنا اليوم يمكن أن يكون قد عاد، لهذا على الجميع أن يتذكروا أن (البرد سبب كل علة) وعليهم بالنار والسبات في البيت، وأكل الشوربات والأطعمة الساخنة والمجففة المحضرة من الحقول والخالية من السماد لا أعلم من أين جاؤونا بالسندويش ما بعرف (شو همبرغر وغيرو) وكل يوم يزورهم الطبيب أو يزورونه (الله يكون بعونهم).
* السيد سامي، موظف لا يتجاوز عمره الخمسين أشار أنه يتدفأ على (صوبية الغاز) التي لا تكفيه نارها لأقل من أسبوع إذا أوقدها طوال النهار، كان لديه (صوبية مازوت)، لكنّ جاره الذي في الطابق العلوي لما سكن في البناء أقفل عليه المدخنة ليخرج الدخان في تمديدات الكهرباء، فما كان منه غير أن يفل عن شراء المازوت والذي أصبح (الكالون) بسعر خاص 10آلاف، هو وأولاده الثلاث ينحشرون بجانب (صوبية كهرباء) في ساعات قليلة من اليوم والباقي منه تحت الحرام والبطانية في سرير كل منهم، هذا هو شتاؤهم عسى أن يبدل شباط وجهه لنرى شمسه التي تعلم على البلاط كما قالوا !
* تيم بالصف الثالث هو فرح أنه جلس في البيت فلا مدرسة ولا دروس وواجبات ولا معلمة توبخه أمام رفاقه، فالصف بارد والنافذة كسر زجاجها ولا مدفأة فيه، فالأفضل كي لا يمرض أن يبقى بالبيت، وكذلك أولاد المدرسة كلها، ولكن بعضهم خرق الاتفاق ليذهب وسرعان ما يعود، أما هو فكان له أن يأكل ويشرب ويلعب مع أخته متى شاء، لكن والدته حرمته من الخروج ليلعب مع رفاقه خوفاً من المرض ونزلات البرد، بل قفلت الباب بالمفتاح، وألبسته الكثير من الثياب كي لا يبرد وكذلك أخته، وأوصته بها قبل أن تخرج لعملها كما حضرت لهما الإفطار.
في كرنفال شتوي تشم رائحة الشوربات والنار، حيث الزوجة التي جلست في البيت واستحقت لنفسها إجازة من عملها تتفنن في صنع الأطعمة الساخنة والمأكولات التي تبعث الدفء في الأبدان، وتحلو السهرات مع أفراد الأسرة والأقارب حول صوبية الحطب مع كوب شاي وصحن من التين اليابس والسمسم وفي قلب النار بطاطا حلوة تشوى وحبات الحمص وبلوط (كستناء الفقراء)، ترقص في الإناء أما الجدة التي حلق في دائرتها الصغار مع الكبار فهي تسرد حكاياها التي تمس العقل والروح حتى عند من أمسك الموبايل لتروي أنه في زمانها كان ما يسمى (الوجاق) وهو يكاد يشبه ما يدعى اليوم (شامينيه) لولا أنها لبست ثوباً بالمليون في هذا العصر وجاهه، وهي مكان النار في البيت تم نسجها بحوارة وتبن وسيدة الدار لها أن تزينها بنقوش وتدلي بحسن عملها وتزركشها بما يطفو من بهاء الطبيعة عليها، وقد رفعت على جانبيها قدراً فيه الشوربة والحساء وعلى جانبها صحن التين اليابس ليؤكل معها، كما في هذه الأيام كان لدى كل عائلة خاروف أو جدي ربياه لأيام الشتاء ذبح في رأس السنة وعز أيام كانون وعلق في سقف غرفة المونة ليؤكل على مدى تلك الأيام ولم يكن يحتاج لثلاجة كما يقلى دهنه وتسمى (القارومة) لتوضع على كل أكلة تحتاج لتقلية وهو ما يعطيها نكهة طيبة مع نار الحطب.
بالتأكيد نحب الشتاء بغيومه وعواصفه وثلوجه التي تقبع على الجبال، ونلحق بها للعب والنشاط، لا يمكن أن ننسى (يا لوز يا مجنون بتزهر بكانون) ليذكرنا بأن الربيع قادم لا محالة والحياة تتجدد و (إن تلجت فرجت) يقضي على الميكروبات والجراثيم ويطهر بدن الأرض لتبشر بمواسم خير وحقول ويعقم الأجواء والبيئة لنعيشها بسلام، ويمكن ببعض النشاط أن نمارسه ليكون شتاؤنا بتدفئة دون كلفة أو انزعاج من الصوبيات على أنواعها ومن نصائح (مجرب) ولا هو بطبيب:
ارتدِ الملابس الصوفية والجوارب الطويلة ولا تنسي القبعة التي تحمي أذنيك من الاحمرار والانكسار، وغطي سريرك بالحرامات وأثقلها باللحاف، وافرش البيت بالسجاد وغيره ولو كان بساطاً، وسد منافذ الهواء جميعها ولو بالنايلون والإسفنج، ولديك بعض الاجتهادات في تنظيف البيت وأعمال أخرى يثني الجميع فيها عليك، كما أن بعض الرياضة وتمارين التحمية والهرولة في المكان تبعث الدفء وتحفز الفكر على النشاط، وبعد هذا كله لك أن تجلس وتشرب الشاي الساخن والزوفا وغيرها من أوراق نباتات صيدلية الطبيعة التي جمعتها في نهارات مشمسة.

هـدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار