يخـــافون شـــباط في أيــــامه المستقرضــات

العدد: 9518

الاربعاء:29-1-2020

 

لطالما كانت حكايا جدتي تؤنسني وتستهويني لأتسمرّ قربها ساعات طوال، وكانت أن روت قصتها عن شباط وقسوته وخوف العجائز منه فقالت: كان يا ما كان قد خرجت عجوز لترعى أغنامها في الوادي البعيد بالأيام الأخيرة من شباط والأمطار قد انحسرت والجو دافئ وجميل، فأطلقت العنان للسانها فتردد بلحن في جوفها: (راح شباط الخباط ولم يأخذ مني خروفاً ولا رباط)، فسمع شباط كلامها فأغضبه، وراح ينادي آذار ليقول له: أناشدك يا ابن عمي ثلاثة منك وأربعة مني، وكان لشباط ما أراد، فجاء بالأمطار والعواصف الشداد ليكون فيها سيل جارف على العجوز وأغنامها، فنادت لتصرخ وتقول: شباط ما عليه رباط، وآذار الهدار، عندها فرح شباط الذي أعاد قوته ورجع بالعجوز لتعيد اعترافها بقوته وتعطيه بقولها حق قدره.

حكاياهم لها دلالاتها ورموزها التي لا تشيخ في دروبنا، ولكبار السن في قرانا أقوال ممهورة ترافقنا معظم أيام السنة وشهورها، ونعلم جميعاً أن يوجد سبعة أيام يشتد البرد فيها أربعة في نهاية شباط وثلاثة في بداية آذار سميت بأيام العجوز، لشدة بردها وخوف المسنين من الرحيل، أما المستقرضات مصطلح استخدموه للتعريف عن خوفهم من شباط وهو استقراض أيام شهر من آخر لنسمع منهم (يا آذار يا ابن عمي أربعة منك وثلاثة مني).
جدتي توفيت في شباط وهو ما رسخ في مخيلتي أن شباط يأخذ العجائز، فهل
ما زال القول إلى اليوم؟
مزنا في الثمانين من العمر أشارت بأنها تخاف شباط ويبدأ القلق عندها منذ الأيام الأولى فيه، وقد ورثت ذلك عن والديها عندما كانت ترعاهما في كبرهما ورافقتهما تلك السنين وقد كانت تغضب عندما يأتيا على ذكر ذلك وهي تحاول أن تأخذهما بعيداً عن الحديث فيه، قالت: لكنني أعيش الحالة ذاتها اليوم وأولادي لا يعرفون كيف يتصرفون، فما يكون منهم غير أخذي إلى الطبيب وأدخل المشفى دون عوارض واضحة لمرض أشكو منه، لكن بانقضاء شهر شباط أعود لحالتي الطبيعية وكأن شيئاً لم يكن، أزور الجيران والأقارب وأتفقد ابنتي في محافظة أخرى وأقوم بكامل واجباتي في البيت وحتى الضيافة والواجبات الاجتماعية عندما يأتيني أحد، فقط هو الخوف والوهم الذي يتملكني في شهر شباط، كأننا نعيش الحياة بمسلسل متعدد الأجزاء، وأجيال تتكرر معها الأدوار.
صلاح في الخمسين قال: يظن والدي الذي بلغ التسعين ويدخن العربي اللف، ومن هم في مثل سنه أنهم عالة على أولادهم بعد أن أرهقتهم سنوات التعب والعيش، ولا يعلمون أن رعايتهم حق لهم علينا وواجبنا فقد ربياني صغيراً، وكثيراً ما أجده في شباط يحبس نفسه في البيت وينطوي في غرفته ولا يخرج من البرد والأمطار، ويطلب منا أن نلتف حوله ويسعده مشاركته مائدته بعد وفاة والدتي منذ سنتين فقط، ونحن وأخوتي نتناوب على خدمته ولو لم يكن يحتاجنا، فذلك يشعره بالأمان وينسى الأوجاع، وكثيراً ما يتذكر في لياليه أيام الصبا والشباب، والرتبة التي كان يكتنزها لسنوات عدة في مناصب وترفيعات، ولا نمل من حديثه إلى أن يسطو عليه سلطان النوم، وينام قرير العين لكنه يستيقظ فجأة وكأن صوتاً يناديه ليشعر ببعض القلق، لكن ما إن يأتي آذار وشمسه الدافئة حتى يخرج من كبوته فيرجع للحياة بعمر جديد .زياد شاب في الثلاثين من العمر يرفض مقولة أن شباط يأخذ العجائز، وجدته قوية رغم أنها تجاوزت الثمانين، ولكن يشعر بها في شباط أنها تأوي دارها ولا تخرج غير القليل وكأنها تصيبها فوبيا من شيء، ولما يسألها أن تأتي إليهم ترد عليه أن يزورها فذلك أزكى وأفضل، وهو يحبها كثيراً لأنها ربته ووالدته الموظفة كانت تتركه لها، لهذا لا يرفض لها طلباً كما أنه يأخذها في مشاويره ليسليها وهي سيدة مهضومة جداً ولا زالت تحتفظ بجمالها ورقتها، وحديثها ليس فيه بغض أو تجريح ولوم بل طيب وكلامها يقع في القلب كالسكر.

شباط إن أخذ جداتنا فلهنّ حق الرعاية منا والاهتمام ، فالإنسان تمر سنينه ويكون قد مضى به العمر وأرخى من التعب على جسده الفاني الكثير من الأمراض، ليفقد قدراته شيئاً فشيئاً ،ويستنزف طاقاته لتراخي عضلاته وأعصابه، وتتغير نفسيته لإحساسه بالضعف وقلة الحيلة وحاجته للمساعدة، كما أن التغيرات التي تكثر مع أمراض الشيخوخة مثل الضغط والسكري والقلب تمنع عنه مأكولات كثيرة وعلينا مراعاة ذلك في وجباته، بالإضافة إلى أنه يفقد قدرته على التواصل مع رفاقه فيجب توفير الأجواء وبعض الوقت لزيارتهم والتودد إليهم وتبادل الأحاديث التي تشعرهم بالسعادة، كما يجب تحفيز الأطفال على زيارة أجدادهم ومساعدتهم .
وقد تكفلت مؤسسات وجمعيات من المجتمع برعايتهم والحفاظ على كرامتهم وأولتهم كل اهتمام، منها جمعية كبارنا والتي شعارها (كبارنا نكبر بكم) وأهلها والمتطوعون بها يصبون جل اهتمامهم على كبار السن الذين ليس لديهم أحد بقربهم يهتم بهم، حيث يزورونهم ويقدمون كافة أشكال المساعدة والخدمات التي تشعرهم بوجودهم وكيانهم وأيضاً الوجبات الغذائية التي تقويهم، كما أنه في المناسبات والأعياد يدعونهم لقضاء بعض الأوقات الممتعة للتسلية ومرافقة من في عمرهم والتحدث إليهم ومشاركتهم ببعض الأطعمة والحلويات، وغيرها الكثير الذي يأتي في الجانب الصحي وتقديم كافة الخدمات في هذا الشأن من معاينة وأدوية وغيرها ..

هدى سلوم- معينة جرعة

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار