العـــــدد 9516
الإثنـــــين 27 كانون الثاني 2020
(الله يرحمو ارتاح وترك الشقى عاللي بقى) وكيف لا وقد أصبحت تكاليف (ليس الحياة) بل الموت بأطنان فوق صدورنا، بعد أن ضاقت بنا كتل بيوتنا الإسمنتية لنتوسعها في صالات نتطلبها لتلقي التعازي ونرجوها تكريماً لذكرى موتانا وفيها مصابنا (فوق الموتة عصة القبر) من صالات العزاء التي استغلت علينا بواجباتها وفروضها من غلاء الأسعار، ونحن لها صاغرون (راح الغالي ما عتب ع الرخيص) فعلى من نتوكل في شكوانا والمصاب أليم؟
بحثنا في جوانبنا وأطراف مدينتنا ووصلنا لقراها والتي امتدت فيها صالات التعزية وانتشرت بكل بقعة منها لتتبدى غيوم تكاثفت طويلاً فوق رؤوس أهل الميت الواجب عليهم تقديم فروض العزاء إكراماً له، حيث كان يظهر واضحاً جلياً الغني من الفقير فهل تساوا في الموت؟
وإن كانت للأفراح صالات قائمة حتى نتبين وجه الصباح، فماذا عن صالات الأتراح وهل في الموت استثمار وأصحاب أموال؟
قصدنا مديرية المهن والصحية ليخبرنا مديرها (قتيبة قرقماز) أنه لم يسجل في سجلاتهم أي ترخيص لأجل صالة عزاء، ولم يحدث هذا حتى اليوم، بل يوجد فقط ترخيص لمحل أو صالات للأفراح والمناسبات المختلفة، وأوصانا أن نلجأ لمركز خدمة المواطن عسى أن يكون لنا عندهم جواب.
ولما سارعنا في خطواتنا إليها وحملنا سؤالنا إلى أهلها والقاطنين فيها جاء الجواب بما أشار إليه سابقاً مدير المهن، وكان أن وضعوا بين أيدينا دليل المواطن لصالات الأفراح والمناسبات المختلفة، وكأنها لا تشمل صالات العزاء وفروضها مع أنها قد مهرت جانب صالات الأفراح (والمناسبات المختلفة) ويتضمن هذا الدليل الأوراق الثبوتية المطلوبة ورسوم المعاملة وكبداية للمعاملة 4000ليرة يضاف عليها قيمة الوثائق التي أمنها المركز وفي نهاية المعاملة ترخيص إداري 10آلاف ليرة تعديل ترخيص 2500ليرة تجديد ترخيص 1000ليرة يضاف لها الإضافات القانونية واستيفاء 1000ليرة على كل متر مربع، وفي حال تم ضبط مخالفة غير قابلة للتسوية يتم منح ترخيص إداري مؤقت لمدة سنة يجدد سنوياً على استيفاء 50ألف ليرة سنوياً وكانت المساحة 25متراً مربعاً وكل متر يزيد يضاف 2000ليرة ، ثم تأتي الأوراق على الشروط العامة للمهنة والشروط الخاصة التي فاقت 41 بنداً لكن في شروط المهنة لفت نظرنا بند (في حال تقديم الإنشاد وقراءة المولد النبوي الشريف أن يتضمن طلب الترخيص ذلك).
وفي جولتنا في المدينة لنتعرف على بعض صالات التعزية وأماكن تواجدها كان لا بد لنا من الوقوف في مديرية الأوقاف التي قصدنا فيها رئيس شعبة شؤون المساجد الشيخ مازن الشيخ لنتبين أمر صالات التعزية وتعرفتها وخدماتها، وكان أن نفى تماماً أن يكون فيها استثمار أو ربح، وكل ما تقدمه صالات التعزية الساكنة في بيوت الله (المساجد) هي بسعر التكلفة فقط ولا ربح أو مزايدة فيها، والتي تتضمن أشغال الصالة والضيافة ولا يتقاضى المسجد أي مبلغ زائد عن التكلفة إلا بناء على رغبة أصحاب التعزية، والصالة مجهزة بكل الخدمات التحتية والكهرباء وجهاز التدفئة والتبريد وكراسٍ وأجهزة صوت وغيرها بما يليق بأهل الميت، حيث عمدت مديريات الأوقاف منذ أكثر من عشر سنوات، على إحياء التعازي في صالات بعض الجوامع التي تتسع لها ومنفصلة عن حرم الجامع فلا تتعطل الشعائر الدينية، حيث كانت قبل ذلك تنصب الخيم والشوادر في الشوارع لتعطل السير وتسد منافذ الوصول إلى الحي كما كانت مكلفة وغير لائقة بالمعزين وتسبب الإحراج من الجيران.
لقد تعددت أماكن تواجد الصالات لتغطي المدينة وطالت أطرافها وقد وصل عددها إلى ما يقارب30 صالة، وتقدم خدماتها لكل من يطلبها وبسعر التكلفة لا غير، كما أن تعازي الشهداء مجاناً، وأي ملحوظة أو شكوى في التعزية يمكن التواصل مع إمام الجامع وهو رئيس اللجنة الإدارية ويمنع منعاً باتاً إقامة الموالد في التعازي.
* المهندس مجد، أشار إلى أن والده توفي منذ بضع شهور وأقامت عائلته العزاء في بيتهم الساكن في حي الرمل الشمالي، حيث دفنوه في مقبرة الضيعة في البسيط ودون أجر، وفي المدينة يسمع أن القبر يكلف أهل الميت أكثر من 25ألف ليرة، وأتى وعائلته إلى بيتهم في المدينة الذي سكنوه منذ أكثر من ثلاثين سنة بعد بيعهم الأرض، ولم يكن ليذهبوا إليها إلا في المآتم ولا يعرفون في القرية غير القليل من أفراد العائلة جاؤوا ليتقبلوا التعازي من جيرانهم وأصدقائهم ومعارفهم، وقد نصبوا الشادر لأجل استقبال الرجال، وفي البيت 80 متراً يستقبلون النساء، وأشار أن تكاليف الضيافة (قهوة مرة وبيضا وزهورات وشاي) والتدفئة وواجبات الأسبوع من الذبيحة وغيرها فاق200ألف ليرة.
* بحي الأميركان استوقفتنا صالة تعزية ومعزون قد تواجدوا فيها وقال صاحب العزاء إنها تابعة للكنيسة، وقد وجدنا ما يشبه في الجوامع من حيث الخدمات وغيرها في التكلفة.
وعند سؤالنا له ماذا يمكن أن يكلّفه العزاء؟
رد أن اليوم الواحد 10آلاف ليرة للصالة وانسحب عن الكلام، والتفتنا إلى السيدة راميا والتي تعمل في الصالة على تقديم القهوة للمعزين وباقي الضيافة كما يمكنها أن تغسل الفناجين وتجلب كؤوس الماء للعطشانين، وقد أشارت بأنها تنال في اليوم الواحد 2500ليرة وهي تقوم بهذا العمل منذ أكثر من 20 سنة ولديها ثلاثة أولاد والحمد لله ماشي الحال ومستور .
كانت الدار واسعة تحيا فيها الأفراح وتنطفئ شعلتها برحيل أحد أهلها ليكون داخل سورها العزاء، تتسع لكل الأحبة والأقارب والأصدقاء، أما وقد سكنا في عمارات وبيوتها علب كبريت تضيق بأهلها دفعت بهم لحق اللجوء إلى صالات في المساجد أو غيرها في الكنائس بسعر التكلفة، وما يواسينا وجودها في القرى بلا قائمة أسعار وفواتير بل مشاركات واشتراكات سنوية بمبلغ واحد من الواجب والمفروض على أهل القرية دفعه لحاجتهم إليها في المستقبل القريب أو البعيد (وما حدا على راسو ريشة الموت حق على الجميع) وبعد أن بنيت صالات التعزية في كل قرية ووسعت على الجميع المقام وفرجت المصاب، ماذا يمكن أن نقول؟
* السيد أحمد من كبار رجال القرية وأحد أعضاء الجمعية الخيرية في القرية أشار بداية أنه تم جمع مبلغ من المال لإنشاء وبناء صالة للتعزية وقال: وهبنا الأرض وتبّرع بالمكان أحد الخيرين فيها، وجمعت الأموال والتبرعات من القادرين عليها وغيرهم قد شارك في البناء رجال وشباب القرية الذين يجيدون هذا العمل طوعاً ودون أجر غير عند الله الذي يرجونه، وجميع من في القرية نساء ورجالاً وشباباً يهبّون عند وفاة أحد من أهل القرية لتقديم كل عون ومساعدة والتي تبدأ بحفر القبر ومراسم الدفن وكل احتياجات الميت وأهله وتقديم الضيافة وتقبل العزاء وغيره طوعاً وحباً لله وأهلهم ولا ينتظرون إلا الثواب، وهو ما يعكس الألفة والخير والتعاون التي تعمّ القرية في السراء والضراء كما تخفف عن أهل الميت الأعباء والمضنيات ويكفيهم الحزن الذي ألمّ بهم.
* المهندس حسن: من أفضل الأمور التي جرت في القرى وانتشرت واستحوذت على الاهتمام من الجمعيات الخيرية هي المبرات وصالات التعزية المجانية وقد أوكلت إلي مع بعض الشبان مهمة تسيير أمور الجمعية، حيث تأتي الجمعية بكل ما يلزم من ضيافة وواجبات ويقدمها شباب من القرية طوعاً، وخصوصاً بعد الحرب التي زادت فيها الوفيات والشهداء وكان علينا أن يظهر أهلنا بمظهر لائق وبأجمل صورة فيها الألفة والمساعدة، لتشاد أول مبرة في القرية منذ سنوات ويتوالى بناؤها عند كل تجمع سكاني لتشمل اتجاهات القرية وأطرافها كافة واختيار المكان المناسب ومراعاة أماكن للسيارات والتنقلات، مع تجهيزها بكل ما يلزم العزاء مثل الغاز وأدوات مطبخ وكراسي وطاولات لتخفيف العبء على أهل الميت، ودائماً نحن حاضرون ونقوم بالصيانة والمعاينة واستحضار ما ينقص ويلزم، حتى أنه ندفع التكاليف للعائلات المستورة لنجبر خاطرها ونقدم مبلغاً لذوي الشهداء إكراماً لهم من أهلهم، كما قد تم شراء قطعة أرض وسورت لتحتضن مقبرة الشهداء وفي كل المناسبات وأيام الجمعة يشارك أهل القرية ذوي الشهداء بزيارة المقبرة ووضع أكاليل الزهور كما أن بعض الهبات والأموال تسد فيها نفقات علاج وعمليات للعائلات المحتاجة والفقيرة.
* السيدة راميا، زوجة شهيد: بداية شكرت كل من ساعدها وساندها في يوم محنتها وحزنها، وقالت: جزاهم خيراً جميعاً أهلي وناسي في القرية، فقد وسعوا علي بصالة توسعت لقبول التهاني بشهادة زوجي الذي رفع رؤوسنا عالياً بتقديم روحه قرباناً لوطنه، وفرجوا همّي وغمي وقصر يدي وقلة حيلتي لتقديم واجب العزاء، فكانوا أن قاموا وجاؤوا بكل ما يلزم ولم يسألوني عن شيء، أو يكلفوني بأمر، فلهم الأجر والثواب من رب العالمين.
* أم حسن أكدت أن وجود هذه الصالات قد وفر على عائلات القرية مغبة الحزن والألم وعصة القبر التي تأتيهم من المصاريف والواجبات، كما أنها جعلت الغني والفقير سواسية أمام الجميع والزائرين، كما أوضحت أن القرية متآلفة والحب بينهم أجمعين، يحزنون لحزن أحدهم ويفرحون لفرحه مع تقديم ما أمكنهم من مساعدة بمختلف أوجهها ولمن استطاع، ناهيك من أن أهل الميت يتركون مصابهم وحزنهم في الصالة ويرجعون إلى بيتهم النظيف مرتاحين، كما أن أماكنها واسعة حسبت فيها أماكن للسيارات والتنقلات ليس كمثلها البيوت القابعة في المرتفعات أو المنحسرة شرفاتها بأماكن ضيقة ومتلاصقة بأبدانها مع الأقارب والأخوة، إن تلك الصالات قد أزاحت عنا الهم والحزن وأفرجت عنا المصاب.
هدى سلوم- معينة جرعة