«شـــو ما إجــى نعمــــة كريــــم»

العـــــدد 9516

الإثنـــــين 27 كانون الثاني 2020

ما إن تلج باب دكانه حتى يستحضر وجودها وعطرها الذي تنثره بالمكان، فهي لم تتغير رغم النوائب والأحزان، أصيلة وبنت أصول تمتزج بمشاعر ولمسات وهمسات تدق بناظريها والخشب منها ينطق بقصص ناس عاشوا بها ارتبطت ببلدهم دون غيرها وبجذور الأجداد، باقيات هي وسط أسواق تعج بالصينيّ والرخيص.
السيد رضوان عاشور بائع (موزاييك) أشار أنه يعمل بهذه المهنة من سنة 1976 ولديه بنت وصبي، شربا منها واستقا أصالتها، وأكد أنها صناعة لا تتأثر بارتفاع الدولار، فالأسعار نفسها منذ سنوات عديدة مع أن الدولار ارتفع فيها عدة مرات، وأصحاب هذه الصنعة التي تعاقد معهم لا زالوا على عهدهم وكل هذه التحف بأسعار مقبولة وراسخة رغم الضيق ولهيب منتجات الأسواق التي تطرحها لا فن فيها ولا روح، والجميع يركض وراء الحجم وينسى أن النوعية هي الأهم.
وسط هذه الظروف التي نعيشها اليوم شغلي ليس مورد رزق، كانت مهنة احترافية وسوقها لا ينتهي، لكن اليوم الأسواق راكدة تعتمد أسواقها على زوار اللاذقية والسائحين يشترونها لاقتنائها والاستحواذ على جمالها، فالموزاييك الدمشقي صناعة سورية تمتاز به وتنفرد وهي خشبيات تتطعم بالذهب والصدف وحتى بالعظم، والخشب هو الورد والصنوبر و السرو كما أن الورد الشامي قد ندر وجوده بالإضافة إلى أن بعضها تدخل عليها خيوط الفضة أو القصدير للزينة ويصنع الموزاييك في الأحياء القديمة بدمشق باب توما و الشاغور والدويلعة والطبالة هذه فيها المشاغل والمصانع وقبل الأحداث كانت منطقة جوبر وزملكا فيها المشاغل الأساسية والأكبر.

وفي الوقت الحالي هي محصورة في باب توما ومنطقة الشاغور وأصبح لديها مواقع على النت تسوق عليها ويرسلون إلي ببريدهم الخاص ما ينتجونه ولدي الخيارات وأخذ ما أريده على حجم السوق وطلبه دون تكلفة وعناء السفر إلى الشام.
ليس لنشاط سوقها وقت محدد وليس فيه مقياس ومثل ما بقولون (طاسة باردة وطاسة ساخنة) فجأة ينشط السوق وفجأة ركود، كما في مثل هذه الأيام لكن في فترة الصيف أفضل، ومن يشتري في الوقت الحالي ،هم المغتربون الذين يعودون لبلاد الغربة بهدية جميلة وتحفة تؤنس وحشتهم وغربتهم وتذكرهم ببلدهم وأهلهم ونادراً ما يشتريها أهلنا هنا فالصناعات الصينية تغزو السوق بأسعار زهيدة والناس تختار القطعة الكبيرة، حيث يقول الواحد منهم من المعيب أن آخذ هدية مثل هذه العلبة بحجم الكف والأفضل أن تكون كبيرة بطول متر (لتبين) رغم أنها مصنوعة من المخلفات والنايلون وقليل من يهتم بالنوعية والفن ينظرون للحجم ، ولكن يوجد بعض الشباب قد لفت نظرهم هذه العلب الجميلة ليضعوا بها (شغلات خاصة) وإكسسوارات وحلي و.. كما عندي بعض الأثاث المنزلي (ترابيزات ومقاعد وعلب ضيافة وأخرى للحلي بأحجام كبيرة وصغيرة وساعات ألعاب الطاولة والشطرنج و..) واليوم السعر معقول ولو كانت تكلفتها كبيرة فقد قل وجود نوع الخشب والوردة الدمشقية، ولقد الناس لاقتناء تلك الجماليات بعد فتور خاصة بعد مشاهداتهم المسلسلات التلفزيوينة وما يفيض به النت.
أولادي يعشقون هذه المهنة ولدي في البيت بعضاً منها ويشرحون لرفاقهم الذين يقصدونهم في البيت ما أرويه لهم عن هذه الصنعة وجمالياتها وموقعها في النفس وأهميتها الاقتصادية، ولدي تخرج (إدارة أعمال) ولديه صفحة على الفيسبوك يصورها ويروي قصصها (الفن بدو ناسو) كل قطعة في المحل أعرف من اشتغلها ومتى صنعت وأين، لا تتغير ولا أتغير معها صارت جزءاً مني، وعندما تحضر تحفة جديدة للمحل أكون قد أوصيت عليها يحضرني نسيمها العليل في نفسي لتكون في دمي وفي نفسي.
يوجد في اللاذقية عدد قليل بهذه التحف لكن ليس جميعهم يدرون آفاقها وجمالياتها، فكل ما يهمهم فيها الجارة والمال وعندهم شطارة بلا خسارة، وكأنها ملابس في سن محيرة، لا يعلمون ان روح أناس فيها عجنت بماء تعبهم وشقائهم، فأنا عندما يدخل أحدهم دكاني لا أبالغ إن قلت :ليس همّي أن أبيعه فقط بل أدفعه لتلمسها ومسح وجهها ليعلم بمعالمها وما تخفيه من جمال وأنس بقصة ولغة يختبرها ويخبرها للجميع في بلده.
لا أستطيع ترك مهنتي هذه أو الابتعاد عنها فقد أوغرت في نفسي ولو كان فيها الرزق القليل، جميعنا نعيش القلة وهذه الأيام صعبة وحرجة علينا جميعاً، وأقول في بالي (شو ما إجى نعمة كريم) ستتبدل الأحوال وتتغير الأيام.
هذه المهنة تعتمد على حرفية صانعها ومهارة يده وهذا فخر لسورية أنها باقية على المهنة التي هي بصمة على جدار الزمن، وأقول وقلت سابقاً يوجد تقصير من جهة مديرية السياحة في التوعية ونشر ثقافة استحواذ كل ما هو أصيل مثل الموزاييك وخاصة في محافظة اللاذقية فعلى الأقل أن تنشر بروشورات عنها في مواقع الكترونية ومجلات لتحظى بما يليق بها ولتكون تراثاً يعترف به عالمياً.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار