خيط الحياة

العـــــدد 9505

الأحــــــد 12 كانون الثاني 2020

 

توقفت نساء قريتنا عن تنبيه أمي لخيط معقود متدلٍ من طرف ثوبها بعدما ملوا من رفعها يدها بحركة لامبالية كلما أشاروا إلى ذلك، وأدركوا لاحقاً أنه تصرف مقصود لغاية ما بعدما جعلته ميزة كل ملابسها.
كان ذلك الخيط سرنا الكبير أنا وأمي، تماماً كالحبل السري الذي كان ملاذي وأماني في رحمها فصار خيط من ثوبها سر صمودي في رحم الحياة الباردة، الباردة جداً كصفعات عمي ومشاعره ووجهه وتفاصيله القبيحة، لم يكن عمي زوج والدتي فقط بل هو شقيق والدي وقد أجبرت أن تكون زوجته لئلا ترمى إلى الشارع مع طفلة يتيمة بسنوات سبعة شقية.
كنت أحبس أنفاسي حتى أسمع شخيره وأشد طرف الخيط لتنسحب أمي بجسدها الهزيل من تحت ثقل أنفاسه وتخرج بي خلسة فتطعمني ما خبأته من بقايا طعام عجز عن حشرها في كرشه.
وإن حدث واستيقظ كانت تدعي أنها تصحبني لقضاء حاجة فينهال عليها بشتائم لا يخرسها سوى صوت صراصير الليل أو كما كنا نحب نحن الصغار تسميتها (زكزوك)…
كان على ضخامته يخشى تلك الحشرات لسبب نجهله لعلها ذكرى سيئة مرتبطة بطفولته، فينحشر في فراشه حتى تخرج أمي وتقضي على مصدر الإزعاج حينها فقط كان يرميني بعيداً عنها ويحضنها كطفل كبير ويأمرني أن أنام فأحاول أن أفعل متجاهلة فحيحه كل الليل.
ظنت أمي أن حالها سيتغير بعدما حملت وأنجبت له لكن غدوت والتوءم عبئاً ثقيلاً عليه فحذرها أن تفكر في الإنجاب مرة أخرى وإلا قتلها، لذا كان جسدها يزداد ضعفاً وصحتها تتدهور بعد كل إجهاض فهناك في الجبل لم يكن يعرفن الكثير عن وسائل منع الحمل لكنهم كانوا يعرفون جيداً كيف يتسببون به.
ذات مرة طردها من فراشه ولعن حظه العاثر الذي جعله يتزوج من أرملة أخيه التي لا تنفع لشيء وأقسم أنه سيتزوج قريباً من ابنة خاله امرأة قوية وجميلة، فأتت ونامت بيننا ولم تتوقف دموعها لحظة واحدة.
انسحبت بخفة وخرجت إلى أرض الدار وبحثت هنا وهناك حتى أمسكت (زكزوكاً) ثم ثانياً وثالثاً، حملتها وأسرعت إلى فراش عمي الذي تقزم وتقزم وصار أتفه من خنفساء وصرخ مستغيثاً بأمي وشد طرف ثوبها لكنها لم ترد…
لم تستيقظ… لا أدري ما بها، شددت طرف الخيط شعرت بدماء ساخنة، كان ثوب أمي بل أمي كلها غارقة في دمائها بعد تعرضها لإجهاضين متتاليين في فترة قصيرة.
(عمي، عمي، انهض وأحضر القابلة، أمي تموت، أرجوك…)
صرخت فيه وهو يشير إلى الصراصير فوق الغطاء، فأمسكتها وقضيت عليها بسرعة أذهلت عمي فقبلني لأول مرة في حياته وخرج لإحضار المساعدة.
كانت جنازة أمي شبيهة بحياتها باردة، كئيبة، هزيلة، ومليئة بالأوغاد،
جدي وأعمامي وجدي الآخر وأخوالي وبعض الذكور المشابهين، أما أنا فقد غافلتهم وسبقتهم إلى المقبرة لأنغرس في الوحل كحطبة يابسة بللها المطر مشيعة الدفء والحب.
عندما كان عمي يضربني في المساء كنت قد قررت أن أهرب ليلتها لذلك بدأت أتأمل مودعة كل شيء حولي بحنين مقيت إلى أن وقعت عيني على طفلتين صغيرتين لم تتجاوزا السابعة بعد، كانتا مرعوبتين تنظران بخوف ورجاء إلى والدهما ليتوقف عن ضربي.
فطنت فجأة إلى أني أنظر إلى إرثي من أمي ومن الحياة، هل سأهرب حقاً وأتركهما لمن… لأب لم يعرف يوماً معنى صلة الرحم أو الأبوة أم لزوجة جديدة سيأتي بها لملذاته وسكره؟!
وصل بعض المعزين المتأخرين فتركنا وخرج لاستقبالهم، نهضت حينها وضممت اليتيمتين بعد أن ارتديت ثوب أمي وأعطيتهما طرف الخيط لتعلما دوماً أني سأكون موجودة لأجلهما.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار