بعيــــد عـن العــــين.. بعيــــد عـن القلب

العدد: 9492

الأربعاء:18-12-2019


 

يمسكان بأيدي الأيام وتتشابك الآمال، وتمتد نظراتهما على مسافات ماء ومركب محمل بالأحلام، والعين بالعين والقلب بجوار القلب وهما يستندان على جدران هذا الزمان، فهل يخذلهما؟ 

نحب الحياة ونسعى دائماً للتغيير والتجديد ونحاول قتل الروتين الذي يسيطر على كل تفاصيل حياتنا وحتى أنه يتململ في شرايينها وقد يعطلها كما الآلة الدوارة، وقد تضطرنا الظروف التي ترهقنا وتوجعنا أن نندفع لهجر أحبتنا ونبتعد عنهم لأجل العمل أو الدراسة وغيرها والبحث عن رزق وطموح، وفي البعيد وحيث مسافات الأيام تقطع الطرقات وتشوه الصور والحكايات القديمة، لتبدأ مقدمات لحكاية جديدة فيها التجربة والاستمتاع لكنها تفتقد لناسها وأحبتها وتشتد أوتار الشوق والحنين وعزفها كل حين بصخب رياحها إلى أن تنقطع أواصرها وتهدأ، وأوراقها الصفراء تتراكم على أرصفة النسيان..

* نجوى، أم لولدين تتذكر زوجها (مهندس) الذي سافر للخليج منذ 11 سنة، وكان الولدان في سن الروضة وقد وعدها بأنه سيرسل لها أن تأتي مع الولدين حين يبدأ عمله ويستلم شغله ويرتب أموره وبيتاً لعائلته، لكن الوضع تغيّر عندما سافر وعانى الكثير في غربته ليكلمها كل حين ويبثها الأوجاع والقلة والحرمان، إلى أن جاء اليوم الذي يخبرها فيه بأنه تزوج فلم يعد يستطيع تحمل الغربة وحيداً، وزوجته ميسورة قد وكلّته بأعمالها ويمكنه اليوم أن يبعث لهم المصروف ويبذر عليهم المال بسخاء، ليتدبروا أمور عيشهم، عندها انهارت قواها ورفضت رفضاً تاماً منه أي شيء ولو عاشت بالقلة والغلبة، وتقول: لكن مع مرور الوقت والأولاد يكبرون ومصروفاتهم تزداد، تأملت في نفسي قليلاً وترويت ورأيت أنه من الحكمة والواجب على والدهم أن يصرف عليهم ولا حاجة بي للعناد، وتقبلت الوضع على ما هو عليه ورضيت بنفسي أن يمدنا بالمال لتدبر عيش الأولاد، وكان لهما منه ذلك، لكني إلى اليوم أشكو الحرمان من زوجي وهجره لي، وأعذره في بعض الأحيان لكن عندما يشتد خناق الحياة علي والضعف يتبدد داخلي وشوقي لأيام الصبا والشباب ونحن نجتاح تلك الأيام الخوالي الأولى عند زواجنا تستعر في النار، وأبدأ في تهجمي عليه عند اتصاله والأولاد خارج البيت، ولا يمكن أن أغفر له حتى لو تكدست عواطفه وشوقه وبثها لي بأرطال وأرسل كل ماله للأولاد، ومن يقول (بعيد عن العين بعيد عن القلب) هو مخطئ بالتأكيد.
* أم هلا، مهندسة: تؤكد بأنها لا يمكن أن تتغيب عن بيتها ولو ليوم واحد فقط، وإن اضطرت أن تزور والدتها لبعض الوقت فهي سرعان ما تعود عندما تسمع طنين أذنها من همس نفسها لظن في زوجها، وحجة أنه لم يسأل عنها ولم يرن الموبايل على وقع صوته، كما أنها لو غابت عنه وأخذت الأولاد لجدتهم ليوم ويومين لا يغلب نفسه ويأتي إليهم بحجة السرافيس والمواصلات، لكنها حين تأتي للبيت ينهال عليها بعبارات الشوق والغزل، وكأنه (قيس) لهذا هي تؤمن جداً بمقولة (بعيد عن العين بعيد عن القلب ) فقد كان والدها رحمه الله كلما ذهبت والدتها لزيارة أمها تراه يحوص ويصول في البيت يخرج إلى الشرفة وسرعان ما يعود ويكلمها ألم يحن موعد عودتها لقد تأخرت كثيراً، وهي تهدئه وتقول: لم يعد على خروجها ساعة بعد، والطريق يحتاج لأكثر منها، ما بالك أبي؟
* محمد أبو مقداد، موظف يقول: كثيرة هي اللحظات التي نجد فيها أنفسنا ضعفاء ومحبطين في موقف ما أمام الزوجة والأولاد غير قادرين على الاستمرار بسبب قسوة ظروف الحياة وضيقها فتكون الشجارات التي لا تنتهي مع معاناة الانكسار والتعب والشعور باليأس والفشل ونتناسى أن ّالحياة ستستمر بحلوها ومرها، ولا يكون لنا راحة بال واستمرار بغير الابتعاد أو رحلة قصيرة، للقضاء على الرتابة والملل وتجديد شباب العواطف المرهفة، فيعود الإنسان بروح التجدد والتبرج والتأنق وليس في مقولة (بعيد عن العين بعيد عن القلب ) فأنا رجعت وكلي شوق.
كل الدراسات النفسية تشير إلى أهمية السفر والخروج من البيت ولأي سبب كان، ومن كان في القلب سيبقى، والرجوع إليه سيكون أقوى إذا ما ترك أثراً فيه، لكن في السفر والبعد أغلب الأحيان ما فيه بعض الدواء والعلاج لحالات اجتماعية واقتصادية ونفسية وغيرها، ففيه علاج متاعب الحياة والمعيشة، وإعادة الحسابات وترتيب أوراق افرد مع ذاته، الاسترخاء بعيداً عن الضغوط وعجقة البيت والأولاد والأيام، الابتعاد عن عجلة العمل الغير مرغوب، التجدد وتغيير الروتين على الصعيد العملي والشخصي، لكن قد يكون خطراً في بعض الأحيان عند رجل غير مبال وسرعان ما يتأقلم بجو جديد لا وجع قلب ولا هموم فيكون عنده الهجر والبرود، وهو ما ذكره الأستاذ حسين محمد، علم نفس.

هدى سلوم- معينة جرعة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار