جحــــــــا في بـــــــــلاد العجــــــــائب

العـــــدد 9490

الإثنين 16 كانون الأول 2019

 

استفاق جحا من نومه على هدير صوت زوجته كمن أصابته صاعقة، قم يا رجل لقد نفذ الغاز في جرتنا ولا زلت تؤجل تبديلها هيا قم فاذهب إلى مركز التوزيع قبل أن ينفذ الغاز لديهم لعنها الله الساعة التي قبلت بها جحا زوجاً لي، من بين كل الأنس والجن في هذه المدينة لم يقيض الله لي نصيباً إلا بجحا أيقونة السخرية في البلاد بين العباد!
قام جحا دون أن ينبس ببنت شفة وتوجه من فوره الى صنبور المياه يريد غسل وجهه، أسعفه الصنبور ببضع قطرات مسح بها جحا وجهه قبل أن يعلن الصنبور عن انقطاع منهله وفيضان منهل زوجة جحا بسيل من التأفف والتذمر، كررتها لك ألف مرة مضخة المياه تحتاج إلى إصلاح وخزان المياه القديم لدينا لا يتسع لأكثر من شربة ماء يستطيع حمارك الغبي الذي لم تجلبه معك إلينا أن يبتلعها بلحظة، أشعر أنني أعيش معك في بغداد قبل ألف عام!
جلس جحا أمام المدفأة متحسساً دفئها بيدين ترتجفان برداً، ضربت زوجته كفاً بكف دون أن يمنعها ما تعانيه عن إرسال ضحكة مدوية اهتز لها بطنها الكبير: تريد الدفء ولا نار في الموقد؟! نظر جحا إليها بطرْف عينه موضحاً: أعلم ذلك ودرسك حفظته عن ظهر قلب نصيبنا من الوقود لا يكفينا أكثر من شهر واحد والشتاء في أوله وننتظر فيه العاصفة تلو الأخرى وبالتالي يمنع إيقاد المدفأة إلا في الأوقات التي يشعر فيها الناس أن قلوبها بلغت حناجرها من كثرة القر، لكن دعيني وحالي يا امرأة أتحسس الدفء من موقد بلا نار كمن يتحسس الشبع من رائحة الشواء دون أن يأكله، حسناً سأطفئ المدفأة التي أوقدتها في مخيلتي ما دام ذلك يرضيكِ، ألن تسعفينا بشيء من الطعام أقيت به جسدي الهزيل قبل أن أغزوَ مع الغازين في معركة الغاز؟- لا وقت لطعامك الآن يا جحا قد أطلق نفير الغاز والناس هرعت إلى مركز توزيعه أفواجاً وأنت تريد القعود والطعام هيا قم أيها الكسول فانفر مع النافرين وعد غانماً وإلا لن تسلم.
وقف جحا على ناصية الشارع حاملاً أسطوانة الغاز منتظراً الحافلة الصغيرة في جمهرة المنتظرين وعندما أقبلت الحافلة البيضاء شعر جحا أن جميع الواقفين استنفروا وكأنهم يستعدون لخطب ما قادم وما أن توقفت الحافلة حتى استعرت معركة الصعود إليها، مصارعة أمام بابها وقفز عبر نوافذها، سارت الحافلة بعد أن أقلت أصحاب العزم والشكيمة في المزاحمة والقفز مخلفة جحا وجرته المعدنية في جمهرة تستعد للمعركة التالية، تحدث جحا إلى سريرته: أنّى لي بجسدي الهزيل وحملي الثقيل مصارعة الثيران ومضاهاة القرود؟! إييه كم أفتقدك في هذه اللحظة يا حماري العزيز، في الليلة الظلماء يفتقد بدر محياك الجميل يا صديقي، حمل جرته على كتفه وحث الخطا إلى مركز التوزيع.
وقف جحا في رتل طويل لم يشهد أطول منه في حياته ولا حتى في موكب سلطان بغداد نفسه، مرت الساعات طوالاً وبطن جحا يقرقر جوعاً وعظامه تقعقع برداً إلى أن دقت ساعة الفرج، عربة حديدية تحمل فوقها جبلاً من جرار الحديد توقفت على باب المركز البعيد وبدأ الرتل يقصر شيئاً فشيئاً حتى حانت اللحظة المنتظرة، جحا وجرته الفارغة في مواجهة موظف التوزيع وجهاً لوجه، مد الموظف يده قائلاً: أعطني بطاقتك الذكية، أجابه جحا على الفور: أنا لا أعرف ذكياً في العالم سوى حماري، نهره الموظف قائلاً: إذاً اذهب إلى حمارك فتبادل معه شطحات الذكاء، قهقه الجميع ضاحكين وتعالت أصوات الضحك حتى أحس جحا أن رأسه يكاد ينفجر من تداخلها فاستفاق من نومه هلِعاً ليجد نفسه وحماره تحت النخلة على ضفة النهر في بغداد، تحسس جذع النخلة صارخاً بفرح: أنا في بغداد في مكاني وزماني المناسبين، أي بلاد عجيبة تلك التي ساقني إليها سلطان النوم في قيلولتي تحت النخلة وأي زمان ذاك الذي عشت ساعات كابوسه العصيبة، احتضن حماره بين ذراعيه: كم أحبك يا صديقي الصدوق، كم أحب عينيك الذابلتين ليستا كعيني زوجتي الشريرة في المنام تقدحان شرراً وناراً، هيا بنا يا صديقي ستحملني على ظهرك الحريري الى مطعم السوق في بغداد، إنه وقت لقاء التجار عند الشوّاء بعد نهار عمل طويل، سأروي لهم شيئاً عما شهدته في بلاد العجائب في منامي، سيضحكون كثيراً وأنال أنا نصيبي من كثير الدهن زكي الرائحة وتنال أنت نصيبك من لذيذ الشعير، هنا يضحك الناس معك وتعود بجرتك ملأى بما لذ وطاب أما هناك في بلاد العجائب وزمن الغرائب يضحك الناس منك وعليك وتعود بجرتك العجيبة فارغة بلا مغنم ومن زوجتك لن تسلم.

شروق ديب ضاهر

تصفح المزيد..
آخر الأخبار