«الخبـــز والملــح اللي بيناتنـــا».. والنـــاس على طــرفــي نقيـــض مـــن الوفـــاء

العـــــدد 9441

الإثنين 7 تشرين الأول 2019

 

لها قداستها عند شعبنا وبين أفراد مجتمعنا، وعليها عشنا وتربينا لتصد أجسادنا المشبعة بالخبز والملح، أعداء حاولوا اغتيالنا والنيل منا لم يكتفوا بالقتل والتدمير وحاولوا التنكيل بقيم ومبادئ تأصلت فينا و تشويه أسباب عيشنا وفرحنا وخبز يومنا، وسرقة الملح الذي فيه لتفسد حياتنا ونضيع غربة في بلدنا ونجوع في لقمة مع أهلنا.
ما زالت بيوتنا عامرة بالوفاء وصون العشرة والجيرة، ولو بعضهم ضعاف النفوس تراخى أمام وجع هذه الأيام ومشقاتها، وقد اعتلتها خميرة التطور والنت لنكون في سجونها ولا نعرف خارج جدرانها جيراننا، ورغم كل الشدائد والنوائب التي ابتلتنا ما زال جمر المعروف يلسعنا وينفخ فينا رغيف فرح محلى بملح الحياة.

أم فرح، تحن لجيرانها الذين جاورتهم وساكنتهم لأكثر من عشرين عاماً، فكانت وجارتها تتشاركان في الطبخ والأكل وسكبات منه حتى أنهما كانتا تتبادلان الأيام للذهاب إلى الفرن وشراء الخبز فتقسمانه النصف لعائلتيهما، لكن بعد رحيلهم لبلدهم لم تنقطع أوصال العشرة وهي تراسلهم على النت لتعرف أخبارهم، وقد حزنت كثيراً وبكت عندما سمعت بوفاة جارتها أم حسين، وقصدت قريتها في حمص لتعزي أبناءها وزوجها وقد كلفها الكثير من العناء وصحتها ضعيفة فهي مريضة ضغط وقلب (لكن بينهم خبز وملح) كما تقول، ولا يمكن لشيء في الدنيا أن ينسيها تلك الأيام الجميلة العالقة بطعمها في أحشاء فكرها وخلايا جسدها وقلب أوقاتها.
أبو ناصر، (ولك ضيعان الخبز والملح بقليل الأصل اللي غدرنا وباع أهلو) كل هذا الخراب أتى من وراء الموبايلات والإحجام عن الجيران والتعارف بهم والتواصل معهم، حتى الأهل والإخوة نسوا أن تكون بينهم زيارات ومودة وخبز وملح، وكل منا يأكل رغيف خبزه لوحده بعيداً عن عيون الناس أو في الطرقات من محلات سندويش الشاورما والهمبرغر حيث لا يشاركه أحد بملحها، ويمكن أن لا يكون فيها ملح أصلاً.
أبو عاصي بجانبه يلعب بأحجار الطاولة والزهر، زفر آهاته بدفعة واحدة ليقول: (ما بتهون العشرة غير على ولاد الحرام) ونحن لا نريدهم بيننا، وعندما نقول بيننا خبز وملح تحط هاماتنا على الأرض باستحياء ولو كان الأمر جللاً بيننا، ففيها الود والعتب على أيام خلت ومرت ولم تخل يوماً من العشرة الطيبة لتمحو كل ضغينة ترهن النفس ويزول الخصام، ونحن لا ننسى أبداً ما حيينا أي معروف وله مذاق ملح الخبز في فمنا وحتى لو تغير صاحبه وأساء فلن يكون منا غير الود والعطاء، فالخبز هو عيشنا اليومي والملح لحفظه من الفساد والضياع أبداً.
لطالما سمعتها تقول: (خبزي ما فيه ملح) فسألتها السبب لترد السيدة هيام بالقول وهي معلمة تعيش وحيدة ليس لها أولاد ولم تتزوج، لكنها ربت أولادها الخمس لأخويها كما ربت أجيالاً في المدرسة، بعضهم (صان الخبز والملح) وآخرون نسوا أو تناسوه وكلما تذكرتهم وتخمر عجين شوقها تقلبت على نارها التي احترق حطب اللوم والعتب فيها ليكون في فرنها وقولها (خبزي ما في ملح) وتشير بأن الناس أجناس تشبه الحروف العربية، بعضهم يستحق الضم وغيرهم يستحق الرفع، لكن يبقى الكثيرون ممن يجيدون النصب وغيرهم ترغب في طردهم من حياتك وجرهم خارج أسوارها، أما ما بقي منهم فهو العلة.
العيش والملح مثلاً يقال لأسباب كثيرة ترمز على طول البقاء وحسن العشرة وطيبتها، حياتنا عبارة عن علاقات اجتماعية أو عملية وغيرها, وتختلف باختلاف قوة هذه العلاقة ونوعها.
السيدة هناء قالت: الخبز والملح هي ليست مجرد طعام أكلناه بل أكثر من ذلك بأطيب وألذ المأكولات والمشروبات، استقبلت قريبة لزوجي في منزلي لمدة خمس سنوات كانت تعمل في مدينة دمشق وليس لها مكان آخر، عاملتها كأنها أختي الصغرى، وفتحت لها المنزل بكامله كأنها صاحبة المنزل وبعد هذه العشرة والمعاملة الحسنة التي قدمتها لها تزوجها زوجي، ورماني مطلقة إلى بيت أهلي وأصبحت هي صاحبة المنزل وسيدته.
أم حيدر (أم لثلاثة أولاد): أسكنت في منزلي ابنة أقاربي لتدرس في الجامعة مرت سنوات عدة بسرعة وتخرجت وعادت إلى أهلها، وتركت فراغاً في المنزل وهي أيضاً اختلفت عليها الحياة كثيراً وعندما أرادت الزواج لم تخط خطوة فيه إلا باستشارتي ووجودي وفي يوم زفافها قالت للجميع: كم أنا محظوظة الجميع لهم أم وأب وأنا رزقني الله باثنين، وما زالت علاقتنا حتى الآن وكأنها إحدى بناتي وتأتي لزيارتي وأطفالها ينادوني بجدتي.
السيد مروان: عدم الإخلاص للعشرة هو حالة من ضعف التواصل الإنساني وسيطرة النظرة التشاؤمية على كل الأمور وحالة مرضية تتوسع وتنشر دون حساب وتساهم في تفكيك العلاقات الاجتماعية وفي مجتمعنا الكثير من الحالات التي تدل على ذلك نعيشها أو نسمعها قد نستغرب أحياناً لشدتها ولكن هذا هو الواقع ولا يمكننا نكران ذلك.
السيدة علا: يحكم الإنسان على الأشخاص والمواقف التي تمر في حياته أحكاماً إما إيجابية أو سلبية حسب رؤيته وتفهمه للموضوع، وعلينا تجنب سوء الظن بالآخرين حتى لا ينعدم الوفاء وتهون العشرة التي استمرت سنوات وغالباً الأحكام السريعة تكون خاطئة ولا ينفع الندم كطلاق الزوج لزوجته بعد العيش معها لسنوات طويلة على موقف صغير وهذا دليل على هشاشة العلاقة وعدم وفائه للعشرة التي جمعت بينهم ونكران لحظات السعادة وتحمل المشقة وتربية الأولاد، أيضاً من يستغل حالة مرض أو ضعف ويحولها لحسابه، وأخذ شيء غال الثمن بأرخص الأسعار واعتبار ذلك تقديم مساعدة ويحاول إقناع الجميع بأنه غير مضطر لذلك ولكن (كرمال) العشرة والخبز والملح.
الخبز والملح قصة لها بعد اجتماعي فهي تعبر عن الوضع الاجتماعي القائم على المحبة والترابط والتأخي، ومن يعرف معناها لا يغدر لأنها رمز الأصالة وعندما يخون أحدهم يقال له (يا حيف على الخبز والملح) ومن يصون العشرة هو من يمكنه الوقوف وتقديم المساعدة في كل الأوقات ولا يتخلى مهما كانت الظروف قاسية دون انتظار أي مقابل.
يغني مارسيل ويعاتب بسؤاله (بعدو رغيف الخبز رغيف، ولا زم وصار ضعيف، سعره طازة بسعر البات، الله ينجينا من الآت) ولا أظنه يقصد أحداً فينا، ورغم التطور وتعدد أشكال الخبز ولونه أبيض وأسمر وصمون شاورما وهمبرغر وكرواسان وغيره للريجيم والصحة بالغرام، ما زال خبزنا في بيوتنا وعلى التنور هو الأطيب والألذ، ومصدر رزق لأسر وعائلات، وكفاف يومهم وعيشهم بعيداً عن الحاجة والسؤال، وما زالت حكاياه تعجن بالود والوفاء بالوعد والعهد، فقد كانت الجدات في ذاك الزمان سالف العصر والأوان يتناولن من (العنبر) عدة كمشات من الطحين ويضعنها في وعاء واسع وعميق، ثم يأخذن رشة تقارب الكمشة من الملح وهو ما يحافظ على الخبز لأطول مدة، وكل من يمر بجانب إحداهن يتناول رغيفاً من الخبز المشبع بالملح والود، ونادراً ما نجد أحداً بينهم يخون الخبز والملح، لكن في أيامنا الباردة هذه أصبحت (الفريزر) هي آليتنا لحفظ خبز(مدعوم أو غير مدعوم) نشتريه من الأفران والمتاجر ليومين لا أكثر ويكون قد بات وانكمش وتعفن (ما فيه ملح) .
ينصحنا خبراء الصحة والتغذية، ونعلم علم اليقين، أن نبتعد عن الملح ومن زاده في طعامه فقد يرتفع ضغطه ويعلو لتصيبه الجلطة، ومن يأكل الخبز ويتوسع فيه يعاني السمنة وينفخ في جسده التعب والإرهاق والمرض، فكيف لا نبتعد عن الخبز والملح؟

هدى سلوم – معينة جرعة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار