والعمــــل الفني اعتــــراف

العـــــدد 9434

الخميــــــس 26 أيلــــول 2019

 

يواجه أدب الاعترافات في عالمنا العربي وجهاً مشوشاً غير واضح الملامح، وربما نستطيع القول عنه إنه خجول. وعلى الرغم من أهميته في فتح المجال وتوسيع المساحة الداخلية للتعبير عن المكنونات النفسية والتجارب الشخصية الحياتية وبالتأكيد هناك الكثير من الكُتاب يستخدمون سيرتهم الذاتية في مؤلفاتهم الروائية وأعمالهم الأدبية دون أن يعلنوا عن هذا، و قد حدد معجم المصطلحات الأدبية والنظرية الأدبية ثلاثة اتجاهات اتخذها مصطلح الاعتراف في الأدب؛ أولها الأدب الاعترافي الذي يتسم بالطابع الذاتي الشخصي لوصف وإظهار التجارب الشخصية ومجموعة الأفكار والمشاعر والحالة الذهنية والجسدية والروحية لشخصية ما.

والثاني هو الرواية الاعترافية، التي عرّفها المعجم بوصفها مصطلحًا غامضًا ومرنًا، يصف نوعًا من السيرة الذاتية، خيالية كانت أم واقعية، تُكتب بأسلوب راوي الشخص الأول، والتي قد تبدو أنها محاولة لكشف الكاتب لذاته، في حين أنها قد تفعل العكس تمامًا؛ إذ قد يتقمّص الكاتب فيها دور شخصية أخرى. وقد أصبح هذا النوع من الرواية، في السنوات الخمسين الأخيرة، هو الأكثر شيوعًا وانتشارًا.
أما الأخير؛ فيتمثّل في الشعر الاعترافي، الذي يجادل المعجم حول تحديده؛ إذ يبدو أن الشعر بشكل عام، خصوصاً الغنائي منه، يتخذ طابع الاعتراف والتعبير عن حالة الكاتب الشعورية والذهنية ورؤيته للحياة، إلا أن بعضه فقط يتميز بكونه أكثر كشفًا لذات الشاعر، وأكثر تفصيلًا لمشاعر الألم، الحزن، القلق والفرح.. و في الجانب الغربي هناك مقولة للشهير ألبير كامو تقول: الضمير المذنب يجب أن يعترف، والعمل الفني هو اعتراف يقول كامو عبارته هذه، معتبراً إياها الموضوع الأساس لبعض من رواياته الهامة. إلا أن كامو لا يتحدث عن الذنب أو الضمير الشخصي للفرد الواحد فحسب، إنما هو يقصد ضميراً جماعياً، يغذيه ذنب جماعي أيضاً، من شأنه أن يقضي على الفرد الذي يمتلك الشجاعة لمواجهته وحيداً. ولعل أحد أهم الأمثلة، روايته الغريب، و إن أفضل ما كتبه الروائي والفيلسوف الروسي تولستوي في تاريخ حياته وفي فلسفة الحياة هو الفصول التي أطلق عليها اسم اعترافاتي، وكما سطَّرت اعترافات جان جاك روسو وأوسكار وايلد وأندريه جيد وغيرهم محوراً أساسياً في نسخته الغربية والتي ضربت الخجل بعرض الحائط. وبالحديث عن أدب الاعترافات في عالمنا العربي إن أول ما يطالعنا الكاتب طه حسين رائد كتابة السيرة الذاتية العربيّة بإصداره كتاب الأيام الذي عُد الأشهر في الأدب العربي المعاصر، ومن بعده أصدر العديد من الأدباء والمفكرين سيرهم الذاتيّة كأحمد أمين، وإبراهيم المازني، وعباس محمود العقاد، كما قامت الشاعرة نازك الملائكة برواية سيرتها الذاتيّة للكاتبة حياة شروات التي نشرتها بعنوان سيرة من حياة نازك الملائكة. وكذلك نجد السيرة الذاتية لابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألفة والآلاف ويتزين هذا الكتاب بالأحداث التاريخية وقد يتصور القارئ بأن أمامه يجري الحوادث مثل الأفلام الجارية على الشاشة ونحن نرى في العصر الحديث بعض الناثرين ينسجون ترجمتهم في نسيج قصصي، منهم: الشدياق، وتوفيق الحكيم، وهناك الخبز الحافي من أشهر روايات الأديب المغربي محمد شكري.
وفي كتاب أدب الاعتراف… (مقاربات تحليلية من منظور سردي) للكاتب والناقد الدكتور إيهاب النجدي، يقول المؤلف في مقدمة كتابه: يستقر الاعتراف في أذهان كثير من الناس في باب المسكوت عنه، ويحاط بالظنون والشبهات، على كل الصعد، ومنها صعيدا الأدب والنقد، وتتحرك هذه المقاربات صوب ثقافة عربية تبجّل الستر، وتميل إلى طي الصفحات الماضية أو السوداء، وتؤثر السلامة، وهي رجع صدى لإرث عريق في المدائح والمفاخرات، تجانب الإفصاح عن الأخطاء، وتتحاشى الكشف عن مرات السقوط في حركة الحياة، فبدت جمهرة السِّيَر- غيرية وذاتية- نقية نقاء الثوب الأبيض في رائعة النهار.
و بكل تأكيد لا تسير كتب الاعترافات الأدبية على نسق واحد، بل يسعى كل كاتبٍ وأديب إلى أن يضع لمسته الخاصة وطريقته، فنجد بعضهم يلجأ إلى كتابة قصيدة تسرد قصة حياته منذ نشأته أو رواية أدبية يجمع فيها بين واقع حياته وخياله، مرة على شكل مذكرات كما نجد كتابًا يلجأون إلى كتابة شهاداتهم واعترافاتهم الخاصة جدًا في كتبٍ مستقلة وإن بقيت تحمل طابعًا أدبيًا مميزًا.
وما من عمر محدد يلزم الكاتب بكتابة سيرة ذاتية أو اعتراف بأي شكل أدبي وفي هذا الرأي يقول إحسان عباس: وليس لدى الكتّاب من عمر محدود يقفون عنده لكتابة سيرهم، فإن نيتشه كتب سيرته وهو في الأربعين، وكتبها سلامة موسى حين بلغ الستين؛ وأحمد أمين حين تجاوز هذه السن أيضاً؛ ولكن لا ريب في أن الإسراع إلى كتابة الترجمة الذاتية، في سن مبكرة، يفوت على كاتبها أموراً كثيرة، فقد يكتبها قبل أن تتضح له نتائج تطور خطير في حياته، وقد يكتبها قبل أن تقف مبادئه في الحياة واضحة جلية لعينيه. وهناك خطر آخر: وهو أنه يحشد في سيرته تجارب كان من الممكن أن يفيد منها في بناء عدة قصص، وفي إيجاد عدة شخصيات، وفي نظم عدد من القصائد أو استغلالها في أي فن أدبي آخر.
وأخيراً لا زلنا في عالمنا العربي نعاني من عدم التمييز والتفريق الواضح بين السيرة الذاتية وما يسمي بأدب الاعتراف فإذا كانت السيرة الذاتية هي تأريخ لحياة الإنسان خصوصاً هؤلاء الذين لهم أدوار مؤثرة في المجتمع ويجد الناس متعة في معرفة تفاصيل حياتهم، فإن أدب الاعتراف يقوم على البوح والمكاشفة من جانب الكاتب أو المبدع الذي يتصدى له، وهذا النوع من الأدب يأتي في طليعة ومقدمة الأدب الغربي، وربما بنوع أقرب إلى تطهير النفس أو جلد الذات، وهو غائب في أدبنا العربي.

رواد حسن

تصفح المزيد..
آخر الأخبار