«من عبق التراث».. لوحــــة ريفيــة من جــبال الساحــل الســوري

العدد: 9422

الثلاثاء:10-9-2019

 

يرجعنا المؤلف عيسى أبو علوش عبر صفحات كتابه: (من عبق التراث في جبال الساحل السوري) إلى الزاد الغني والمفيد للبيئة الريفية وكل ما يرتبط بها من تفاصيل وجزئيات ومكونات طبيعية واجتماعية واقتصادية حيث تحدّث في الفصل السابع من كتابه الآنف الذكر عن ارتباط شهر آذار بالحوادث المؤسفة المتعلقة بأسرته وخاصةً والده مشيراً إلى كيفية تعاطيه مع هذه الحوادث والمشاكل وفقاً وانطلاقاً من البيئة التي يعيش فيها التي لا يتوفر فيها الحد الأدنى لمعالجة الأمور البسيطة، وضمن هذا السياق ذكر الكاتب لنا حادثة توضح نمط وأسلوب الحياة آنذاك في ضيعته حيث استهلّ حديثه بالإشارة إلى زراعة الحمص ومساعدته لوالده في الأيام الأخيرة من شهر آذار في إحدى الأراضي التي يملكونها (نبّوعة الصفرا) حيث قال بهذا الخصوص: عندما وصل خالي يخبرنا عن سقوط أخي الصغير من على جدار حاكورة بيت عمي بين ركام من الحجارة والصخور وأنّ إحدى هذه الصخور سقطت على إحدى ساقيه مما سبب له جرحاً كبيراً مفتوحاً ملتفاً ما بين الركبة والقدم حتى ليظهر عظم الساق من خلاله كما أنه مصاب بجروح كثيرة ورضوض في رأسه وفي مختلف أنحاء جسمه وأنّ كل أهل الحارة مجتمعون الآن في بيتكم لا يعرفون ما يفعلون… وما إن سمع والدي الخبر حتى استلقى على الأرض وهو يقول: الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبدأ يشكو من رجفان في أعضاء جسمه ثم أخرج من جيبه علبة الدخان البلدي وبدأ يلف سيكارة ويقول لنا: فكوا البقر واجمعوا الأغراض واحملوها إلى البيت، ففعلنا كل ما أمرنا به ثم نهض واقفاً وبدأ يمشي ببطء شديد ونحن نتبعه.. وتابع المؤلف حديثه قائلاً: كان كل الناس يتوقعون الموت للطفل الذي لم يتجاوز عامه الثالث وكان يجيب دائماً عن سؤال كثيراً ما وجّه إليه: من وقّعك ؟ فيقول: (لحالي) .. لم يكن في الريف كله طبيب وفي ضيعتنا لا يوجد حتى ممرض، وكان يسكن في بيت جدي القريب موظف بالريجي (مراسل دخان) أحضر لوالدي زجاجة مليئة بالكحول المطهر والمعقم كان يحتفظ بها لمثل هذه الحالة الطارئة فصار والدي يصب الكحول على الجروح صبّاً والصغير يصرخ ويبكي من الألم فيبكي كل سامعيه وكلهم كانوا يخافون عليه من الكزاز فمازلنا في شهر آذار البارد وقرر والدي نقله إلى مدينة جبلة ليسعفه إلى أحد أطبائها والسفر سيكون في الصباح لأن السيارة (البوسطة) تبيت في جبل جوفين الذي يبعد أربعة كيلومترات في نهاية الطريق الذي شقته فرنسا إبان احتلالها لبلادنا لتسهيل التنقل لقواتها العسكرية، هذه البوسطة تنطلق إلى جبلة في الصباح لتعود مساء لأنّ الطريق جبلي وترابي بل صخري، وأكمل المؤلف قائلاً: وفي الصباح الباكر استيقظنا على هوجٍ في بيتنا لقد اجتمع الجيران وبعضهم بقي ساهراً مع والديَّ طوال الليل لم يغمض لهم جفن يراقبون حالة الطفل المعلق بين الموت والحياة ثمّ وضعوه في ذلك السرير الخشبي الصغير الذي تربينا فيه كلنا، ولفّوه بما تيسر من أغطية خفيفة وثقيلة درءاً للبرد وحتى أنّ ذلك الموظف النبيل أحضر إحدى بطانياته فلفّوا بها السرير كله واختلى والدي بنفسه برهة دعا بها ربه أن ينقذ ابنه ونذر النذور لذلك وتقدّم عم والدتي وحمل السرير بما فيه على كتفيه وانطلق به عبر الزاروب باتجاه جوفين وهنا تعالت صيحات النساء وعلا بكاؤهن كان الموقف عاطفياً وإنسانياً كانوا يلقون النظرة الأخيرة فهو بحسب تقديرهم سوف يعاد في نفس السرير ولكن ميتاً وأجهش الجميع بالبكاء وينادي والدي بصوت متحشرجٍ مخنوق: أعده إلى البيت دعه يموت بين أهله وأخذ يردد الآية القرآنية الكريمة «قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا». أعاده إلى البيت وأخرج كل الناس حتى أمي وترك معه رجلين يساعدانه وأحضر إبرة عادية لتخييط الثياب وخيوطه المسلوبة ( وهي من الحرير الطبيعي) ويعطيه الله صبراً حيث لا توجد مسكنّات وصراخه يزيد من بكاء الأهل في الخارج، لقد أدرك والدي أنه لن يخسر شيئاً كيفما كانت النتيجة فالطفل ميؤوس منه ولكنها محاولة إنقاذ قد تصيب ويذهب ذلك الموظف الشهم إلى جبلة ويحضر عدّة عبوات زجاجية مليئة بالسبيرتو المعقم مع بعض الشراب المضاد للالتهاب، وختم المؤلف حديثه بالقول: مرت الأمور ومعها الأيام والشهور ويشفى الطفل لأنّ عظامه كانت سليمة لا كسور فيها وجراح اللحم تلتئم بسرعة لأنّ (الولد مبارك) والدم جارٍ في فصل الربيع والحياة والنمو يدبّان في كل شيء وهنا أتذكر المثل القائل: من له عمر لا تقتله شدة.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار