تحولات المعاني في اللغة.. من الثبات إلى التغير

الوحدة – د. رفيف هلال

من الظواهر اللغوية اللافتة التي رصدها علماء اللغة عبر العصور أن معاني الكلمات ليست ثابتة أو جامدة، بل تخضع لتطور مستمر، يتشكل بفعل الزمن والاستخدام. فالمفردات قد تتوسع لتشمل دلالات جديدة، أو تضيق لتتخصص في معنى محدد، أو تنزاح عن معناها الأصلي إلى دلالة مختلفة ترتبط بها مجازاً أو عرفاً.

اتساع المعنى: من الخاص إلى العام

يتجلى هذا النمط في انتقال الكلمة من مدلول ضيق إلى مفهوم أكثر شمولاً. على سبيل المثال، كلمة “البأس” كانت تعني في الأصل الحرب، لكنها اتسعت لتشمل كل مظاهر الشدة والمعاناة. وكذلك “الرائد”، الذي كان يطلق على من يسبق قومه بحثاً عن الماء والكلأ، ثم غدا يُستخدم لكل من يتقدم الجماعة في أي مهمة. ونجد هذا الاتساع أيضاً في كلمة “الورد” التي باتت تشير إلى الزهور عامة، رغم أن معناها القديم كان يقتصر على نوع بعينه.

تخصيص المعنى: من العام إلى المحدد

في المقابل، قد يتقلص المعنى فيتحول من شمولية إلى خصوصية. فكلمة “الحرامي” التي كانت تُنسب إلى “الحرام” بشكل عام، أصبحت منذ القرن السابع الهجري تدل على “اللص” تحديداً. وكلمة “الحريم” التي كانت تعني كل ما يُحرّم مسّه أو الاقتراب منه، اقتصرت لاحقاً على النساء. ومثال آخر هو كلمة “العيش”، التي أصبحت في لهجة أهل مصر تشير إلى الخبز دون غيره.

انتقال الدلالة: من المعنى الأصلي إلى المجازي

يحدث أحياناً أن تنتقل الكلمة من معناها الأول إلى معنى آخر يرتبط به بعلاقة مشابهة أو ملازمة. فكلمة “الظعينة”، كانت تشير إلى المرأة في الهودج، ثم أُطلقت لاحقاً على البعير الذي يحمل الهودج. وكلمة “الشنب” انتقلت من وصف جمال الأسنان إلى معنى “الشارب”. وكلمة “الأفن”، التي كانت تُستعمل لقلة لبن الناقة، أصبحت تدل على قلة العقل وسوء التصرف.

صعود المعنى وانحداره

وقد تتخذ التغيرات الدلالية مساراً قيمياً فبعض الكلمات ترتقي مكانتها مع الزمن، كما في كلمة “رسول”، التي كانت تعني في الأصل مجرد مرسَل برسالة، ثم أصبحت تحمل دلالة سامية تشير إلى النبي. في المقابل، قد تشهد الكلمة انحداراً في معناها، كما حدث مع “الحاجب”، الذي كان لقباً رفيعاً يعادل رئيس الوزراء في الأندلس، ثم أصبح اليوم يشير إلى البواب.

خلاصة

يتضح من هذا كله أن اللغة كائن حيّ، يتفاعل مع الإنسان ومحيطه، ويتغير بتغير الثقافات والاحتياجات. وهذه التحولات في المعاني ليست مجرد تطورات لغوية، بل تكشف عن حركة المجتمع وتغير منظومته القيمية والفكرية. ففهم اللغة لا يقتصر على قواعدها، بل يتطلب وعياً بتاريخها ومسارات تطورها.

تصفح المزيد..
آخر الأخبار