دور المعلمين في بنــاء الأجيـال القادمة.. تحديــات ما بعــد الحــرب

العدد: 9394

24-7-2019

تنهض العملية التعليمية على أركان ثلاثة: المحتوى التعليمي، وطالب العلم، والمعلّم، ونكاد نجزم أن المعلّم هو الركن الأساس الذي يُعوّل عليه في نجاح هذه العملية، فهو المسؤول عن استيعاب المحتوى التعليمي معرفياً ثم نقله إلى الطلاب بأسلوب يتلاءم مع مفرداته، وهو أيضاً المسؤول عن تهيئة الطلاب نفسياً وعلمياً لتلقّي هذا المحتوى بما يضمن تطوير قدراتهم ونجاحهم في الوقت نفسه، وعليه فإن دور المؤسسات التعليمية في هذه الأزمة يتوزّع بين أركانها الثلاثة، لكنّ المعلّم هو الجامع لهذه الأركان، ولذا ينبغي أن يكون المعلّم الغاية والوسيلة في آن، هذا ما بدأه د. محمد علي كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة طرطوس في الندوة الحوارية (الأزمة الراهنة ودور المؤسسات التعليمية في معالجتها)، إذ تركت هذه الحرب التي عانى منها مجتمعنا السوري جروحاً غائرة في الوجدان الشعبي على المستويات كافة، ما يستدعي مراجعةً شاملة ومقاربةً مختلفة لآلية عمل المؤسسات التعليمية بما يضمن تجاوزاً مرحلياً لعقابيل هذه الأزمة في لا وعينا الجمعي، والحق أن دولاً كثيرة عانت ما عانيناه من ويلات الحروب، لكنها نهضت بعد ذلك بالعلم والمعرفة، وهذا ما يدفعني إلى التأكيد على أهمية دور المؤسسات التعليمية عامة، والمعلّم خاصة، في تحقيق نقلة نوعية على مستوى التعليم بمراحله المختلفة، وسأكتفي اليوم بالحديث عن التعليم الجامعي أنموذجاً، محاولاً الوقوف على إشكالياته، واقتراح الحلول الناجعة لتطويره، انطلاقاً من دوره الفعّال في تجاوز الراهن الذي نعاني منه جميعاً.

يُعدّ الأسلوب التلقيني في التعليم من أكثر الإشكاليات التي تعترض المعلّم في مقاربته لعملية التعليم، وعلى الرغم من بعض الإيجابيات الكامنة في هذا الأسلوب، إلا أن المرحلة الحالية تفرض علينا مواكبة آخر نظريات التعليم الحديثة، والانتقال إلى الأسلوب التفاعلي في التعليم، فهل يمتلك معلمونا الجرأة والإمكانية على ذلك؟ أما الجرأة فإنها تحتاج إلى خصائص نفسية واجتماعية ينبغي توافرها في المعلّم فطرةً أو اكتساباً، وكذا الإمكانية، وهذا يحتاج إلى برنامج ثوري استراتيجي في إعداد المعلّم الفعّال، ومن المؤسف بمكان غياب أي توجّه في هذا الإطار ما خلا مخرجات كلية التربية ودبلوم التأهيل التربوي، فأغلب المدرّسين الجامعيين، من معيدين أو معيّنين بموجب مسابقة، يتم الزج بهم في العملية التعليمية من دون تأهيلهم، أو من دون الوقوف على إمكاناتهم التواصلية، وحتى من دون تقييم حقيقي لأدائهم بواسطة معايير محددة، وهكذا فإن نظريات التعليم الحديثة لا تتطلب شهادة جامعية كالدكتوراه وحسب, كما أنها لا تتطلب خرّيجين أوائل وحسب، وإنما معلماً قادراً على التكيّف مع المعطيات المتغيّرة للتعليم، وعلى الرغم من الدورات التي تقيمها بعض الوزارات في هذا الإطار إلا أن الفائدة المتحققة منها يجب أن يتم قياسها على أرض الواقع، وليس عبر شهادة تُمنح للمتدرّب من دون متابعة كيفية ترجمة ما تدرّب عليه، وأثرِ ذلك في تطوير العملية التعليمية.
تُعدّ آلية امتحان الطلاب من الإشكاليات التي نواجهها أيضاً في سياق العملية التعليمية، وهي آلية وثيقة الصلة بأسلوب التعليم الذي تحدثت عنه آنفاً، فأغلب الامتحانات تتوخى اختبار ذاكرة الطالب أكثر مما تتوخى اختبار وعيه وإدراكه لما درسه، وأنا أعي أن بعض المقررات تفرض هذا النهج في الامتحانات، وهنا يأتي دور المعلّم في تطويع مفردات هذه المقررات بما يخدم الغاية الحقيقية من التعليم، وأعني الارتقاء بالمستوى الفكري والمعرفي لدى الطلاب، وقد عانيت حقيقة مع طلابي من هذا الجانب خلال تدريسي بعض المقررات، وكنت أجد المجال الأرحب لتطبيق ما أراه صواباً في ساعات العملي أو حلقات البحث، وهكذا فإن دور المعلّم يتجاوز رفد ذاكرة الطالب بمعلومات سينساها بعد نجاحه في المقرر، وإنما يجب ربط هذه المعلومات النظرية بالواقع التطبيقي، وإعطاءُ مساحة أكبر لإبداع الطالب في مقاربة هذه المعلومات، مما يؤدي بنا إلى بناء شخصية طالب خلّاق يُعمل فكرَه في كل ما يتلقّاه، ولا يقف عند حدود تحصيل العلامة,، بل يقرن العلمَ بهذه العلامة.
وأخيراً سأقف عند عامل مهم من عوامل نجاح العملية التعليمية، وأعني البعدَ الأخلاقي للتعليم، إذ ينبغي على المعلّم العناية بهذا الجانب لنعيد الاعتبار إلى منظومة القيم الأخلاقية التي يجب أن نواجه بها مرحلة ما بعد الحرب، وسبيلُ ذلك كامنٌ في شخصية المعلّم نفسه، فعليه أولاً أن يكسب محبة واحترام الطلاب، ليغدو القدوةَ الحسنة والمثلَ الذي يُحتذى في سلوكه قبل علمه، وقد قيل في الأثر «خيركم من علّم الناس بعمله»، ومما لا شك فيه أن اقتراب المعلّم من طلابه، وتفهّمَه طبيعتهم الانفعالية، ومراعاتَه فروقاتهم الفردية، كل ذلك يمنحه القدرة على التأثير فيهم، والسير بهم ومعهم إلى طريق النجاح، فدور المعلّم لا يقتصر على تزويد الطلاب بالعلم، وإنما محاولة خلق جيل واعٍ يحتفي بالأخلاق احتفاءه بالعلم وأكثر.
لا تدّعي هذه العجالة الإلمامَ بكل جوانب دور المعلمين والمؤسسات التعليمية في تجاوز هذه الأزمة، لكننا وقفنا عند أهم الجوانب التي يمكن البناء عليها، وهذا يحتاج إلى جهد جماعي تراكمي، وعمل دؤوب صادق النية، وقبل ذلك وبعده اقتران القول بالفعل.

نور محمد حاتم 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار