الوحدة:14-11-2024
إن طبيعة العملية الإبداعية، بالنسبة للشخص العادي، وللفنان ذاته بالواقع هي: غامضة، وغير قابلة للتحليل، إذ من الصعب حتى تعريف الإبداع بشكلٍ جامعٍ مانع إلّا إذا حاولنا أن نقترب منه بعض الشيء، نستطيع أن نقول: إن الإبداع هو النشاط أو العملية التي تقود إلى إنتاجٍ يتصف بالجدة والأصالة والقيمة من أجل المجتمع، أما الإبداع بمعناه العام الواسع فهو إيجاد حلولٍ جديدةٍ للأفكار والمشكلات والمناهج إذا ما تم التوصل إليها بطريقة مستقلة، حتى لو كانت غير جديدة على العلم.
بهذه الكلمات استهل الأستاذ أديب عباد محاضرته التي ألقاها في دار الأسد للثقافة – قاعة الأنشطة بعنوان “الإبداع والإبداع الفني” …. قدم هذا النشاط الأستاذ سمير مهنا، مؤكداً أهمية الإبداع والمبدعين في المجتمع…. الأديب عباد خبرة طويلة في مجال تدريس اللغة العربية حوالي ٣٨عاماً، وهو مشارك في غالبية الملتقيات الأدبية والثقافية، إضافة إلى إلمامه بالشعر والموسيقا والرياضة، لديه مخطوطات حوالي عشرة آلاف صفحة في منتهى العلوم والآداب، أما ديوانه الشعري بلغ حوالي 250 قصيدة…
بدايةً أوضح الأديب عباد أن الفن هو التفنن، ولغة هو أساس الغصن الغض الناضر، وكلمة الفن تشمل الشعر والموسيقا والرقص والرسم والنحت وغيره….وقد استهلّ المحاضر حديثه عن المبدعين قائلاً: المبدعون يشتركون في صفاتٍ، ويختلفون في أخرى، وتوجد سمة واحدة بين الفنانين الكبار والعلماء المشهورين في عدة ميادين وهذه السمة المشتركة هي الرغبة في العمل بدأبٍ وجدٍّ لمدة ساعات طويلة. وإن القدرة الإبداعية هي ميزة كل مادة حية، ومن جانب آخر إن الإبداع عملية تحقيق للذات لدى شخصية حساسة بشكل استثنائي، ومتكاملة تماماً. وإن الهامات العملية الإبداعية نادراً ما تأتي إلا إن المرء أغرق ذهنه في الموضوع، كذلك لا بد أن تتوافر له خلفية غنية من المعرفة والخبرة في مجاله، وإن الإلهام الأولي لا يشكل إلا المنطلق. ثم لا بد أن تتبعه ساعات أو أيام طويلة من العمل والجهد في تنقيح وإعادة تنظيم وإكمال لمعات البصيرة الأصلية، إنما دون هذه اللمعات قد يكون من المستحيل البدء بالعملية الإبداعية التي غالباً ما تمر بمراحل أربع هي: تحضير، وحضانة، وإشراق، وتحقق…. وفي السياق ذاته تابع الأديب عباد قائلاً: فبكل طورٍ من أطوار الوجود، يمكن للمرء أن يعيش روتين الحياة التقليدي على أكمل وجه، أما في الشعر فإنه يصارع ربّةً هي ربّة الشعر، وقد قلت في إحدى قصائدي من وادي عبقر:
صاحبتني إلهة الشعر..
فصرت مليكَ ذاك الوادي..
فعشقتها، والعشق فجرّ طاقتي..
وسموتُ فوق الكلّ من حُسّادي…
وإذا اعتبرنا هذه الومضة من تراثنا القديم في العصر الجاهلي، فقد كشف العلم الحديث القناعَ عن هذا الكنز البشري العظيم، وهذا العضو النبيل الذي هو المخ ونتاجه العقل الذي يعلو بدوره على كل الكائنات حتى يتراءى للبعض أن الله يسكنه. والناس يتفاوتون في القدرات العقلية، كما يتفاوتون ويتفاضلون في الطول والعرض وبقية الصفات، ومن هنا جاءت العبقرية (أي شدة الذكاء) نسبة إلى وادي عبقر. وقد عرف الذكاء من جديد أنه يتضمن السلوك الإبداعي، وإن التطور والحياة المستقبليين يعتمدان على توفر الكثير من الرجال المبدعين الذين يبذلون الجهد المستمر الدائب لتصعيد وتطوير ما تم إنجازه من قبل وتدعيمه بإنجازات أكثر جدّة وقوةً وملاءمةً، وتعلّم المبدع يحتاج إلى تعليم مبدع.
والشخص الطلقُ التعبير يتصف بدرجة عالية من الإبداع، وأن الشروط الاجتماعية، كما نراه في ميدان الإبداع الفردي، هي شروط هامة، فحرية التعبير والحركة والرغبة في تجاوز المألوف والعادي وروح المرح إضافة إلى الإخلاص في العمل ووجود الهدف على نطاق واسع …. وحول العناصر الأساسية لشخصية المبدع أضاف الأديب عباد: العناصر الأساسية لشخصية المبدع هي: وجود درجة عالية من الحساسية، وكذلك التفكير المتشعب المنطلق وأن أشد المصائب التي تحلّ بالأفراد ذوي القدرة الإبداعية إنما تنبع من فشل الوالدين – إلى جانب المجتمع – في فهم ابنهما المبدع، فالإنسان يرث أعضاء الحسّ والجملة العصبية والدماغ (وهذا أغنى ميراث)، فالطفل يسعى لتحقيق استقلاله بتعلم الحبو، والاستقلال هو الخاصة الضرورية للشخصية المبدعة.
وختم المحاضر حديثه عن فن الشعر قائلاً: إن العبقرية في الفن – وبخاصة فنّ الشعر – وعموماً الموهبة لا تفصل الفنان عن المجتمع، بل تجعله ينغمس في أعمق أعماق الحياة الاجتماعية، وأن كل شاعر عظيم، هو عظيم لأن جذور آلامه وسعادته قد نمت عميقاً في أرض المجتمع والتاريخ، وأنه بالتالي، عضو وممثل للمجتمع للزمن والإنسانية لأن المجتمع لا يوجد فقط حول الفنان، بل وفي داخله أيضاً لأن شخصيته مع كل تفردها هي “مجموع كل العلاقات الاجتماعية” والناس تُدهش لفراسة العبقري، ويجدون في أعماله ذرّةً من روحهم ومن تجربتهم وتطلعاتهم.
ندى كمال سلوم