بنـــــاء الـــــوعي والاســـتخدام الرشـــيد

العدد: 9283

3-2-2019

عندما يحلّ الجهل، ويسيطر الفكر الغيبي التكفيري والنصوص المقدسة، يمرّ الإنسان والمجتمع بواقع غير طبيعي، مجتمع رؤوسه في الأسفل وأرجله إلى الأعلى، يريدون لنا أن ندور بين رحى الجهل والفقر، بين رغيف خبز وحورية، لا نفكر إلا بالجوع والغرائز وإشباعها، نحن اليوم في وطننا الجريح الذي يحقق الانتصارات المتلاحقة على الإرهاب وأربابه أحوج ما نكون إلى الثقافة وصناعة الوعي الذي أصابه الكثير من الكدمات والتشوهات في الصميم.

الوعي هو ما يتعلمه الإنسان في حياته من معارف وخبرات ويستخدمها استخداماً رشيداً واعياً في سبيل الحق والخير والتطور الإنساني، ومسؤولية إعادة بناء الإنسان وصناعة وعيه وتحصينه وإيصال المعرفة التنويرية للمجتمع والعمل على رفع الوعي والقدرة على التمييز بين خيط الجهل الأسود وخيط المعرفة الأبيض، هي مسؤولية وطنية وواجب أخلاقي، وهي عملية جماعية – حكومية – مجتمعية يشارك فيها المجتمع الأهلي والمؤسسات الثقافية والتعليمية كافة.
نور المعرفة يقهر ظلام الجهل، الثقافة هي السلاح الذي يواجه كل تكفير رجيم، وتسهم في تشكيل الذهن والوعي والرؤية والتنظيم الأخلاقي للنفس البشرية، وهي رافعة المجتمع المبني على قواعد العلم والعمل وسيادة القانون، وقد استطاع الأعداء النفاذ إلى عقولنا ومجتمعاتنا بسبب ضعف وعينا، يروجون لكل ما يهدم ويكفر العقول والمعقول، لذلك علينا الاهتمام بالبيئة الأسرية لما لها من تأثير كبير على الفرد وهي العامل الأول في تحديد مساره ، وإعداد مناهج التعليم والعناية بها، وتعليم الناس على القراءة والمطالعة والخوض في غمار المعرفة، فبمقدار ما نقرأ تزداد معرفتنا ويزداد وعينا، والاستفادة من الطاقات والكفاءات واستثمارها في برامج ولقاءات وحوارات لجذب الناس إلى الفكر المتنور ونشر القيم الأخلاقية (الحق، الخير، العدل، العمل) للنهوض بالمجتمع، والتأكيد على المواطنة، نبذ التعصب والتطرف والتكفير، والحوار البناء مع الآخر المختلف، لا إقصاؤه أو إلغاؤه، ومشاركة الفن والدراما في طرح القيم وحب الوطن ومحاربة الانحراف والفساد بجميع صنوفه.
وعي المجتمعات لا يأتي من فراغ ولا يسقط من هواء، هو خطة متكاملة، علينا مواجهة وتفكيك كل فكر غيبي ورده إلى أساسه الرجيم، وتنقية العقول من الشوائب والطحالب التي علقت بها خلال سنوات الحرب العجاف، وإحداث تغيير تدريجي في الفكر والمعرفة وتحويل زوايا النظر الحادة إلى دائرة تدور في كل الاتجاهات، وتحرير الذاكرة وتفريغ حمولتها الآسنة التي خزنتها بوعي أو بدون وعي تحت تأثير المثيرات والمؤثرات المحمولة على ظهور أدباء ومفكرين وإعلاميين نهضوا من أنقاض الغفلة ومستنقعات المال الآسن الحرام وينبشون في خرائب الإهمال والعقول، ومثقفين معتلّي الطبع يساوون الكنار بالبوم، ولا يعطون رأياً سديداً أو فكراً رشيداً وصاروا مثل أضلاع مكسورة في الصدر يصعب تجبيرها وإعادتها إلى موقعها في صدرنا الموجوع، في مسرحية (الماندراغولا) التي كتبها نيكولاي ميكافيللي صاحب المبدأ الشهير (الغاية تبرر الوسيلة) حيث تبرز السخرية اللاذعة من السلطة الدينية ومن النفاق الاجتماعي الذي يجعل الأسرة تقوم على أساس الخيانة بدل الوفاء وربطها بالإرادة السماوية، وإن فساد رجال الدين يؤدي إلى تهديم المجتمع شيئاً فشيئاً عبر تلويثه القيم العليا، مقابل ترسيخ قيم المصلحة الشخصية.
علينا بناء الإنسان قبل الحجر وإعادة تصويب قيمنا المجتمعية وعلاقاتنا الإنسانية ورأسمالنا الاجتماعي، وتعزيز التربية والتعليم والذات الوطنية ووعي الفكر القومي والتمسك بالهوية الوطنية وإحياء روح المقاومة وثقافتها، والتصدي لآثار العصر الشبكي المعلوماتي على الثقافة والإنسان وانزياح المشهد الثقافي العالمي لمصلحة الصورة على حساب الكتاب والكلمة المقروءة.
علينا رفض تصميم نهج الحضارة الغربية على الشعوب العربية والإسلامية بأثواب حداثوية واهية – سامة وتحويل الإنسان العربي إلى إنسان مشتت متعكر الفكر، بلا انتماء ولا هوية ولا رموز، غايته المتعة والمادة وكل شيء بالنسبة له قابل للاستهلاك وخاضع للسوق والعرض والطلب، وممارسة الظلم والإفساد والهجمية والاستعباد والعنصرية للفتك بالشعوب الفقيرة وابتلاع خيراتها تحت أقنعة (نشر الحرية، حقوق الإنسان، الديمقراطية) ولا يهمهم لو تهدمت الدولة فوق رؤوس شعبها، فعملياتهم الجراحية الديمقراطية كمن يتعلم البيطرة في حمير النوّر، آخر همه حياة المريض!

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار