عجين حكايــــانا لا ينتهي خبــــزه على الأفـــــران

العدد: 9377

1-7-2019

 

(أعطنا خبزنا كفاف يومنا..) دعاء نقتات عليه، أيامنا بعد طحنها بين حجري رحى الحياة وضوائقها التي أفسدت الجسد والروح منا، لنعجنها بلعاب آلامنا وبلاويها التي تفشت فينا، واستعر لهيبها ليضرم نار فرن عيشنا ومعيشتنا وتحترق بحطب أحلامنا، ولكن سرعان ما يخمد سعير آمالنا على رماد أوهام تعتلينا.
خبز أفراننا لا تنتهي فيه الحكايات، ولا يربط لها عنق قميص أرغفتها وقد اسودت وجوه فيها وابيضت وجوه بطوابير وصفوف على الأرصفة تمتد على الطرقات لساعات انتظار مرهون بوقوف، وقليل فيها أحمر فهو(مدعوم بحليب وطحين أبيض .. معقول).
سيناريوهات يومية بحكايات تعجن بألسنة ناسها منذ ساعات الصبح الأولى لتشرق شمسها على (لمة نسوان وصبحية) أقارب وجيران، أو مجالس واجتماعات لتأدية واجب تهنئة أو عزاء وحوار مفتوح بفم مملوء بالشكوى وقلب موجوع بشجون وشؤون تتفتق فيها الجراح وتنزف على ستر الحال بلحن وقوافي شعر له المقام، إنه عيشنا وكفاف يومنا وكفانا سير وأخبار.

أبو جابر، رجل (بحيطان الستين) أشار إلى أن الأمر لم يختلف عليه لا قبل الحرب ولا فيها، فهو يأتي إلى الفرن يومياً ليأخذ ربطتين بمائة ليرة لأجل عائلته ويرى في ذلك متعة بعد تقاعده من الوظيفة كما أن في ذلك توفيراً، فالربطة في السوبر ماركت والدكاكين بمائة ليرة (ثمانية أرغفة وحتى سبعة فقط)، هذا عدا عن أن حجم الرغيف صغير وينقص فيها الوزن، يمكن لنا أن نستغني عن اللحمة وهذا هو أكيد اليوم ونقتصر على بعض الخضار التي انخفضت أسعارها لكن لا يمكننا أبداً أن نستغني عن الخبز الذي هو رمق الحياة وعند بعضنا سبب عيش.

أما أم سامر فهي لا تزعج أي من أولادها الثلاث وتوقظه لأجل أن يأتي للفرن، فطوال العام كل منهم يصحو ويفيق باكراً لأجل مدرسته كما أنه يسهر طوال الليل محدقاً بالنت فلا تغفو له عين إلا مع طلوع الفجر، وهي تريده أن يهنأ ويرتاح و(لاحق على الهم) كما تقول، تقف بالدور لساعات، فاليوم أتت من الساعة السابعة صباحاً وبعد مرور ساعتين من الوقت جاء دورها والحمد لله، لتخرج من الزحمة وتتنفس الصعداء.
بعيداً عنها بأمتار في الرصيف المقابل حيث طرشت أرغفتها على مقدمة سيارة ركنت على طرف الطريق لحين انبلاج طيف جارتها من ضباب الزحام والتي رافقتها هذا المسير طوال أعوام، صحيح أن الوقوف الطويل مزعج ومؤلم لكنها تراوح بالمكان كرياضة للأبدان كما أنها تسمع الأخبار بوجبات صباحية وكلنا أهل وجيران إن كانت محلية ولاذقاينة وحتى دولية تغني عن التلفاز وحتى الزيارات والمراسلات.
تجارة الرغيف رائجة اليوم نراها بكبائرها وسط هذه الجلبة فلا يبتعد فاعلها عن الفرن بضعة أمتار، ومعظمهم أطفال وقد تصل الربطة في يوم عطلة لـ200 ليرة وكأن الرغيف فيها بمقام ووجه حسن..
أولاد بالدور، فهناك دور للنساء وثان للرجال وآخر للعسكريين، أما الأولاد فمعظمهم جاء ليتناول خبزه ويبيعه على بعد مترين من الفرن، ولما اقتربت من أولاد يفرشون خبزهم على السيارة استطالت يد أحد الرجال بوجه مكفهر ولسان متلعثم لتطال أحد الأولاد وقد شده والطفل يستجير، رجوته أن يتركه بحاله، لكنه لم يعرني أي اهتمام بل قيّده بقبضته كصوص ينتفض بين أصابعه، ولما رآني (معندة) في مكاني تركه ليذهب على الضفة الأخرى من الطريق ويرمقه بنظرات تلاحقه، وما إن أخذت أنفاسه بالارتياح حتى تناول كيساً من جيبه واستنجد برفاقه لفرز الأرغفة بربطات لكنهم جميعهم في انشغال فحشرت نفسي في الأمر وقد وجه لي كلماته: عدي لي 14 رغيفاً وضعيها في الكيس، وهنا انتهزت فرصتي لسؤاله: ماذا أراد منك ذاك الرجل، نظر إلي بحذر وقال: لمَ السؤال ولحقها بالقول: لا شيء ولا أعرفه، خمس ربطات خبز كانت نتيجة التصنيف والترتيب وقد ربط أمرها لما يخفيه، حيث قال (يا اللي بتجيبيه ب200 بتبيعيه 550)
عبد الرحمن، صف رابع ينتظره في البيت سبعة أفراد أم وأب وإخوة صغار، توقظه والدته من السابعة صباحاً ليذهب إلى النادي الرياضي وفي طريق عودته الفرن ليحضر الخبز، أكد أنه لا يبيع الخبز بل حضوره اليومي لأجل مساعدة والدته وإعفائها من الحضور في هذه العجقة.
رفيقه وليد صف ثالث بادرني بقوله عند اقترابي منه، أنا لا أبيع الخبز انظري هناك.. تلك المرأة تبيعه، ولما بينت أمري ومرادي قال موضحاً: كثيرون يسألوننا إن نبيعهم خبزنا، لكن ليس لهم عندنا ما يسألون، وفي البيت خمسة يريدون الفطور وقد تأخرنا والساعة تجاوزت العاشرة الآن.

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار