بيت الأمتار الستين.. كـــان فـــي البـــال!

العدد: 9375

27-6-2019

الحب كالنار يحتاج لاجتماع العناصر: أشياء قابلة للاحتراق وهوى يمر وشرارة تنطلق، وأنا بكل بساطة بددت اجتماع عناصر حبنا وفاء لوعود قطعتها لأبوي، وجلست أتفرج على الرماد يحتل المساحات الوالعة، لم أكتشف هذا السر إلا بعد موت أبي، إذ أصبح تقنين الكهرباء يستغرق جلّ مساءاتنا.. صرنا ندرس على ضوء الشموع، أو مصابيح (الكيروسين) ومن أجل ضبط المصاريف تشعل أمي النار في المساء، تضع جمراتها الصغيرات نصف المشتعلات فوق قليل من حبيبات التمر، فتبدو للعين مجرد قطع من الفحم اصطفت على سواد، تجمعها فوق بعضها بحيث يمر الهواء من خلالها، فتتوهج بالكامل مانحة شرارة البدء للحبيبات السود الصغيرة كي تتوهج بدورها كمجرة في كون عاتم، وتعتمر أمي نرجيلتها .. وتجلس تنتظر..
(بيت الأمتار الستين) للكاتبة زينب عز الدين الخير هي الرواية التي نوقشت هذا الأسبوع في ملتقى محبي الكتاب مع الأستاذ مهند حاتم الذي قرأ بداية الإهداء: إلى أهل جبلة ريفاً ومدينة.. عساها لا تغيب من البال أيامكم الحلوة.. عساها تعود إلى كل السوريين الذين حاولوا ردم الهوة.. عساها لا تضيع سدى تلك الجهود! وقال:

(بيت الأمتار الستين) مكان يدلّ على الضيق أما كان في البال، فله دلالة زمنية والزمن لا قيمة له للناس والناس لا قيمة لهم أو ما يميزهم هو فعلهم في العنوان جدلية الزمان والمكان وثلاثية الزمان والمكان والإنسان.
وبعدها سرد بعض مفرداتها وفصل فيها واستفاض بوقائع هذه الرواية التي تتألف من خمسة أجزاء، وتبدأ حكايتها عام 1919 في بداية القرن العشرين أثناء ثورة الشيخ صالح العلي ضد المحتل الفرنسي وتنتهي في 27/5/2009 وقرأ في بعض صفحاتها:
كان التاريخ يلقي غلالته الشفيفة على تلك البقعة، وتحت الغلالة تتحرك أطياف أناس عبروا من هنا في غابر الأيام، وكعادة الدنيا سمعنا بالقادة منهم فقط ببعض المشاهير، أما الذين تعبوا وكدحوا ورفعوا الأحجار على أكتافهم وحموا بوابات القلعة والذين قضوا نهارات العمر ولياليه حراساً فوق الأسوار فلا أحد يعرفهم، والقاسم المشترك الأعظم بين الكل: أنهم جميعاً قد رحلوا.. وجبلة وحدها بقيت.
أين حماسي الذي أرهقني بالأمس؟ لقد اشتط بي الوهم لدرجة ظننت معها أنني سأحدثهم عن جبلة ساعات متواصلة بلا انقطاع !جبلة بحاراتها القديمة.. بأزقتها الضيقة المقببة وشبه المقببة.. بشوارعها الهادئة تعج بالساعين لعيش بسيط آمن، جبلة.. ورائحة الشمرا والمحلب وماء الزهر تضوع من كل البيوت في ليلة العيد، وشبان يتقاطرون باتجاه الأفران حاملين صينيات الحلوى، ينتظرون حتى تنضج ويعودون بها متوردة، شهية، تستعجل فرحة العيد.
سأكتب عن كل شيء عرفته، لا أريد أن أنسى، وأخاف اليوم على كنزي من الضياع! ربما احتجت لمرجع ما، لشيء موثق لا أدري إن كان موجوداً، ولا كيف يمكنني الحصول عليه، لكنني سأبدأ على الأقل أكتب ما أعرفه وفاء لمدينة منحتني الفرح ثراً صافياً، ربما يأتي بعدي مولع آخر يفيد منه ويكتب!
أبتِ كنت تظنني سأصبح روائية وتثني على شغفي بالكلام وتقول: تكلمي كتابة! ولم أفعل! اعذرني يا أبي، فأنا مجرد مهندسة زراعية لا تعرف كيف تفرق بين أوراق شجر الليمون الحامض وأوراق البرتقال!
رحمة الله عليك يا أبي، لو تدري ما بي الآن! ففي القلب كنز من تفاصيل حميمة غلفتها بالوجد، أشبعتها بالحنين حتى لا تطالها عاديات الزمن، اليوم مساء عندما أعود مساء إلى بيتي سأكتب عن جبلة، عن عيشنا وعمرنا، بيتنا وأهلي، رفيقاتي والجيران، الشوارع والساحات، أشجار النخيل في حدائق البيوت القديمة، وأشجار الإكي دنيا والورد الجوري تكاد تخفي واجهات البيوت، عن الأعراس والأفراح سوف أكتب حتى عن الأحزان، أدونها على كثرتها، أخوض هذه المواجهة مع كل ماض مرة واحدة وانتهى، لن أترك أسفي يلازمني ما حييت!
سأكتب عن بائعي الفحم والمازوت على الطنابر، عن مصلحي الأحذية وبوابير الكاز، عن بائعي الخضار ينادون على بضاعتهم منذ الصباح الباكر ويدللونها بمعسول الكلام، عن بائعي الذرة المسلوقة والفول، والفستق المحمّص وهم يدفعون عرباتهم ويقيسون شوارع المدينة عند العصر جيئة وذهاباً، عن مسجلاتهم التي تملأ الشوارع بهجة معلنة قدومهم فيتحضر لاستقبالهم الأطفال، ومن يشتهي من الكبار، وعند المغيب تحديداً عند المغيب ينبعث صوت أم كلثوم من كل (راديوهات) المدينة من المحلات التجارية والعربات الثابتة والجوالة، من مقاه يتزاحم الرجال فيها، وبيوت لانتظارات النساء، وكأنما يرافق الشمس إلى محطتها الأخيرة في طقس احتفالي مقدس.
ما بال هذا القلم يقطع الكتابة، يعيق أفكاري عن الانسياب، أحتاج لأضغط عليه بشدة كي يترك أثراً واضحاً على الورق، وليست الشدة من طبعي فتضيع الفكرة، ويتراجع الصبر أمام ضيق الخلق وعدم الرغبة بالاستمرار، ولا همة عندي لأنهض وأستبدله سأتوقف الآن، أخاف ألا تسعفني إرادتي، أخاف التفكير بالجدوى، هي قسمتي والنصيب، هو الطبع الغلاب، وهذه أنا لو قيض لي رسم خطاي بقلم رصاص، رسمتها كما تمنيت ثم محوتها، ثم أعد الرسم، وأعدت محو ما رسمته ولبقيت حياتي مليئة بالتناقضات، الحمد لله والشكر له فما أنا فيه الآن أكثر راحة، أشلح اللوم على الدنيا والعتب على الحظ، وأنقذ تناقضاتي الدفينة من كل اتهام .. غداً سأكمل…

هدى سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار