الكتابة بين السطحية والعمق

العدد: 9375

27-6-2019

 

الكتابة وسيلة المعرفة الأولى.. فعلٌ موجّه خلّاقّ له أهميته في استنهاض الوعي المجتمعي وولوج آفاق جديدة من الإبداع وتغنينا في البحث عن معنى جوهري وعمق ذهني للحياة، وينساب الحبر على السطور، ويتفتح الزنبق الأبيض بكلمات تقرع أجراس المعاني وتُشبُّ النار في جوف الحروف، بعيداً عن الانتهازية العقلية ودغدغة العواطف، وخاصة الكتابة للأطفال… عندما سئل الأديب العالمي صموئيل بيكيت: (لماذا لا تكتب للأطفال؟!) أجاب: (لأني لم أنضج بعد).
يهون القلق والعذاب في مطاردة الأفكار المضنية، والكاتب الملتزم قارئ للمستقبل بامتياز بالاستفادة من تجارب الماضي وحيثيات الحاضر، يمتع ما يكتب من قلب مترع بالمثل العليا والأهداف النبيلة، والتجارب التي يمر بها في حياته وماضيه بما فيها من سلبيات وإيجابيات تظهر على نتاجه، يستعيد ما مرّ معه، ويلتقط أحاسيس الناس ومشكلاتهم، ويشحذ قريحته لاستخراج واستنباط واستنتاج المعاني والصور ليطرز بها تصوراته وحلوله من زاوية وعيه للقضايا التي يناقشها.. الكاتب النمساوي التقدمي كارل كرواس المعادي للحركة الصهيونية وله مواقفه اللافتة من الإعلام وتحذيره من خطورته..
الكتابة الحقيقة قادرة على خلق الأسئلة دائماً فيما يخص علاقات وجود الكائن (الحياة – الحب – الكره – الزمان – المكان ..) والكلمة الصادقة الملتزمة البيضاء الناصعة التي تختزن كثافة العاطفة والحب والبعيدة عن أي خلفية خبيثة الهادفة لبناء مجتمع حضاري أصيل تعبر كل البوابات لتصل إلى النفوس وتلامس شغاف الروح وقادرة على استنباط الدهشة والإعجاب معاً.. يقول الكاتب الفرنسي كينار الذي يكنّ الحب والوفاء لسورية حكومة وشعباً : (غياب المثقف الوطني عن المجتمع موت من نوع سيّء لهذا المجتمع وموت للمثقف، فالكاتب جرس يعلن النهوض لمن غلب عليه النعاس).
الكلمة سلاح ودمار حين يكتبها قلم حاقد يكتب بشراسة وكأنما يمارس الأذى بالشراسة ذاتها، يكتب أفكاراً تلفها مناديل اليأس والقحط والجدب والجفاف، وحين ينطقها صوت مبحوح كفحيح الأفاعي، وسلاح غدر حين تباع وتشترى، وما أكثر الذين باعوا واشتروا وبَدَّلوا بوصلتهم وزايدوا، هناك كتاب سوداويو المزاج معتلّو الطبع.. نمط شاذّ غريب من البشر غريبون في سلوكهم وتفكيرهم، جفت لديهم مواد الإبداع وصمتت عنهم ملائكة الإلهام، أصحاب عقول عاقرة وفقر معرفي مدقع كتابتهم لا تعبر السطح ولا تنفذ إلى الأعماق ينشغلون بما هو ظاهري وشكلي على حساب ما هو فني وجمالي يلقون بالأفكار جزافاً يمنة ويسرة كمن يلقي قرمة الحطب المعسعسة المسمومة في المدفأة، والإغراق في الشكل على حساب المضمون وهشاشة الأحداث وتسطيحها، ويكثرون من الإشارات المبهمة والكلمات غير المفهومة ويصدعون رؤوسنا بمواعظ لا محل لها من الإعراب، يحشرون بوزهم باختصاصهم وغير اختصاصهم وفيما يعنيهم وفيما لا يعنيهم، يتسكعون في أسواق البؤس العقلي والفقر التخيلي والتخييلي، ترتسم في أذهانهم زوابع كبيرة من الغبار، أفكارهم غامضة قريبة من السواد يشوهون الجمال وينقصون الكمال.. نتمنى أن يطلع الشوك في حنجراتهم وتخرس ألسنتهم عن الكلام ، تتقاذفهم أفكار غامضة مبهمة قريبة من السواد، وهذه الأفكار البائسة التي تملأ رؤوسهم تغرد خارج سرب الحياة والمجتمع وغير قابلة للتنفيذ، ويوغلون في أوهامهم كغريق يوغل في مغارة تحت الماء يلوح في طرفها البعيد سراب نور، ويكتبون كلمات بلهاء تطرق الأذن وكأنها ضربات إزميل يتصورونها مليئة بالحكمة والذكاء، وكما يقول دايف بيري (مهمتك أن تعطي الناس سبباً لمواصلة القراءة)
في سنوات الحرب والأزمة في بلادنا تحولت الكتابات إلى حوارات مستمرة حول الخراب المجتمعي والقيمي والأخلاقي… نحن بحاجة إلى كتابة تزلزل الموت الذي نعيشه منهم وتداوي جراحنا وتغسل هذا الصدأ الذي يتراكم يوماً بعد يوم على أرواحنا

نعمان إبراهيم حميشة 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار