العدد: 9368
18-6-2019
الذاكرة شيء خاص فردي وصميمي وهوية ووجود، وهي القاعدة الصلبة التي يبني عليها الإنسان معظم مواقفه وأفعاله وتصوراته، يعيش أسير ماضيه دون وعي منه، ينبش في ذاكرته فينتقل من زمن إلى آخر ومن حالة إلى أخرى.
الذاكرة خزان يخبئ المشاهدات والقراءات والصور التي جمّدت لحظات في الزمان والمكان، وهي مثل المكتبة والمتحف تجثم فيها آثار حضارة قديمة تفعل فعلها في عقولنا، وهي حمولة شديدة المتاعب على الناس ولا زمن من ماضي الإنسان المحفور في الوجدان إلا عبر ما تسربه ذاكرته، وبواسطتها يمكن استرجاع قصص التضحية والشجاعة والبطولة والإقدام والوفاء في سبيل الوطن.
الذاكرة وسيلة تعذيب مثلما هي وسيلة إمتاع، وقطط الذاكرة تموء بشراسة تحت نوافذ الليل والنهار غير آبهة بالمكان والزمان، والأطفال المولودون حديثاً وحدهم يملكون ذاكرة بصفحات بيضاء، والصورة والذاكرة توءمان، والكثير من الناس يرغبون بإتلاف مساحات كثيرة منهما، فالذاكرة المكتسبة لا نحصل منها إلا على أفكار متعفنة صدئة توغل دروبها في أودية زمن غابر لبس قميص النسيان.
الذاكرة أكثر ممتلكات الإنسان قيمة، ومستودع ماضيه، فيها يتم تثبيت المثيرات الطبيعية (الفيزيائية والكيميائية والثقافية والعلمية والأدبية والفنية واللغوية) في وعي الإنسان لأمد طويل واسترجاعها عند الضرورة ودفع الأحداث رفيقة الفرح والانشراح إلى المقدمة والواجهة، فيها يتم الحفظ والاسترجاع والتعرف والنسيان والاستذكار، ولها آليات تحفظ عملها وقوانين تتحكم بحركتها، وعلينا المحافظة عليها ورعايتها كي لا تتعب وتفقد قوة استيعابها، وهل أقسى على الإنسان من الحياة فاقداً الذاكرة؟
لكل امرئ ذاكرتان، ذاكرة الحس التي تبلى كما يبلى الجسد، وذاكرة النفس وهذه لا يعتريها النسيان ولا يبليها الزمان، والذاكرة تنام ولا تضعف، وهي لغز عصيّ على الفهم يعيد التذكير بالماضي أو تقريب أو تبعيد أحداث ومحو أخرى، والتعتيم على أحداث الحزن واليأس والمآسي.
الذاكرة مهما كانت عشوائية فهي سائدة متسيدة على يوميات حاضرنا، ونهر الذكريات يتدفق كالدموع التي تمضغ القلب، والذكريات والرؤى والمواقف التي تراود الخيال المنبوشة من ألبوم الذاكرة لا تأتي متسلسلة، وإنما تطرق مخيلة الفرد حسب الظروف والمناسبات وترتبط بحوادث وأفعال ليس من السهل أن يتذكرها الإنسان تباعاً، بل تهيّجها المشاعر كرائحة الألوان في لوحة الغياب، ونستحضرها كالأرواح الهائمة من أوقات بعيدة.
لا أحد يستطيع فصل ذاكرته عما حولها، وصور الذاكرة تجدد الألم أحياناً، ذاكرة الحرب الحالية متخمة بأحداث كثيرة أليمة أثقلت ذاكرتنا بمشاهد قسرية ودموية وصدمات وتراكمات نفسية أليمة منفرة.
الموتى يغيبون بكلّ ما في ذاكرتهم من أحداث وصور وتفاصيل وعند غياب الذاكرة فإن محصلة وجود الإنسان يساوي العدم ولا يبقى منه سوى المخزون في المتاحف وفي ذواكر الغير.
نعمان إبراهيم حميشة