الوحدة: 9- 5- 2023
يقتضي النظر بتمعن و تأنٍ في روحية وظيفة التراث إلى زاويتين تُشير الأولى منهما إلى حضارة متكاملة آتت ثمارها و هي بمضمونها التراثي ليست فقط مجرد إنجازات عادية باهتة، وإنما هي في عمق صميمها روح، ونمط في التفكير و الحياة، و أما الزاوية الثانية فتذهب إلى القول: إن طاقات الإنسان كافة يمكن تفجيرها لبناء قدرات مبدعة كامنة تتحرر من أغلب قيود التقليد بُغية إبداع ما لا يخطر على بال أي أحد، و بعين الحقيقة يرى المتابع بأن التراث الذي يشد الناس إليه و يسلب القلوب نحوه هو الذي يملك فعلاً القوة السحرية على التغيير و بما أن صُنع التراث لا يتوقف أبداً، فالناس على الدوام و في كل العصور و الدهور تصنع جملة من العناصر التراثية الجديدة و تُورثها لمن يأتي بعدها، والموقف الطبيعي يقول:إن الذي يتلقى تراثاً فإنه يصنع بيده تراثاً آخر جديداً يُغني التراث الذي تلقاه أو ورثه وصولاً إلى نقطة تحقيق غاية كل ذلك و المُوجزة في عبارة (إبداع التراث)، و من المفيد الإشارة إلى فكرة الجمع بين التراث و المعاصرة بحيث يستلهم المرء من التراث أفكاراً و قيماً لدمجها في تركيبة صور الأحوال الراهنة التي أسهم عموم الناس في رسم تشكيلها.
يتبين للناظر المُدقق بأن للتراث عدة وظائف واضحة يتجلى أهمها في ما يلي:
– الوظيفة النفسية: فالتراث بمفهومه التعريفي هو بصمة تراث أمة عريقة ذات دور مرموق و مكانة بارزة في جميع فصول التاريخ، و تاريخها هذا ارتقى بها إلى قمم المجد العالية و لا بد هنا من آليات دفاع نفسية كالتسلح بإرث حضاري ناصع و عريق و ضخم من شأنه أن يُشكل سنداً معنوياً صلباً لإرادة متجددة في غالبية النفوس، و يتعزز هذا أيضاً بإدراك واقعة مهمة و هي أن الحضارة ذات مرتكزات يُساعد الكشف عنها و الإقرار بها على الاندفاع في تيار الحياة من جديد و عقد العزم على إنجاز أفعال ذات بصمة ناصعة و احتلال مكانة فاعلة على الساحة الكونية.
الوظيفة الجمالية: ليس بالأمر الجديد القول: إنّ حقولاً واسعة من التراث الأدبي و الفني و الثقافي و المهني و العلمي تتضمن عناصر جمالية قوية لم تفقد أبداً مع مرور الزمن و انقضاء الوقت أياً من سحرها أو روعتها ، وليس ثمة شك في أن الحساسية الجمالية التي يُثيرها الأدب بالذات تُعتبر من أرسخ مقومات وحدة النفس الإنسانية، و يمكن القول: إن أعمق التحام بالتراث و أفضل مداخله يمكن أن يتم بالأدب بمعناه الواسع حيث يدخل في هذا الباب المصنوعات الفنية و الأثرية و المهن اليدوية و الفنون التراثية و ألوان الموسيقا، و فضلاً عن كل ما تنطوي عليه من عناصر الفائدة و المتعة فهي تُساعد على تشكيل تجانس ذهني و روحي و حتى إنساني يمد جذوره بنهم في الحساسية الجمالية نفسها.
– وظيفة الجدوى: من الثابت بأن التراث يشتمل عناصر جدوى ، أي عناصر يمكن استخدامها في الوقت الحاضر و الزمن الحالي و هذه العناصر تكون مُنبثة في جل أرجاء التراث، و مع أنه لا يمكن التعويل على تصنيفات من سبق في معالجة دقائق الأمور التي تهم قضايا العصر النوعية و الشائكة إلا أنه يمكن الاستئناس بآراء أهل العلم و الخبرة في تلك القضايا، و كذلك استخدام مواقف و حلول و أحكام واضحة لأي قضية مطروحة و تبحث عن حل لها و هذا ما يُوصف تحديداً بكلمة استخدام لا استلهام، و في نافلة القول يظهر فعلاً بأن التراث لا يصح التهاون في أمره أبداً أو التقليل من شأنه لأن محور الدور الذي يُؤديه في حياة الشعوب و الأمم جد خطير كونه دوراً مركزياً و ليس هامشياً و يدخل في صُلب المُركب الحي الذي يُشكل الأفراد و المجتمعات نفسياً و اجتماعياً و قومياً.
د. بشار عيسى