دير راهبات القلبين الأقدسين بطرطوس .. رهبنة وطنية إنسانية حافظت على سيرة عطرة ومضيئة في ذاكرة المدينة
الوحدة : 16-4-2023
تلقى الأديرة في سورية مكانة كبيرة وراقية، وتعتبر ملاذاً آمناً وصدراً رحباً لكل مريد وزائر مثلها مثل الكثير من المزارات ودور العبادة، ويذكر التاريخ أن الراهبات كن أول فئة تعلم الفتيات بطريقة أكاديمية مدروسة في المنطقة ومن كل الطوائف والفئات، وعلى مدى سنوات عديدة كانت العديد من الأسر تُسكِن بناتها الجامعيات في الدير لما فيه من ثقة وراحة وأمان تحت إشراف الراهبات بقلوبهن الأمومية وعينهن الساهرة على سلامة وسلوك كل من يلجأ إليهن، وطبعاً في المجتمع السوري لم يحل أحد مكان الأديرة من حيث الاحتواء والانفتاح والعلم والأمان للفتيات، وكغيرها من المقرات الدينية كانت قد شهدت حركة مد وجذر وازدهار وتقييد بالتوازي مع الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة، إلا أنها بقيت نقطة إشعاع مضيئة متجذرة في المنطقة، وفسحة عطاء ومحبة نقدم منها كنموذج دير راهبات “القلبين الأقدسين” في طرطوس، كجزء من ذاكرة المدينة العطرة، والتي لا زالت تفتح أبوابها اليوم كأفضل حضانة أطفال في المدينة وبأسعار معتدلة لدعم الأمهات العاملات وتأمين أفضل رعاية للأطفال.
* إلى دير القلبين الأقدسين :
على باب دير “القلبين الأقدسين” وفي يوم عطلة الحضانة التقينا الصبية التي تعمل فيه والتي دلتنا بكل لطف للصعود للقاء السور (الأخت) زاهية المتواجدة في ذلك الوقت والتي استقبلتنا بدفء لتحولنا بدورها للسور ماري عربش المسؤولة عن الدير، وبالنسبة لتاريخ الرهبنة تشرح سور ماري : تأسست الرهبنة عام (1853م) على يد الآباء اليسوعيين، بهدف تعليم الإناث حيث كان تعليمهن يعتبر بدعة بذلك الوقت، أما حياة الرهبنة فكانت مسكية ولم يكن هناك حياة كانت رهبنة رسولية، وكانت أول رهبنة بالشرق تنطلق بالمجتمع لتجمع الشكل التأملي والرسولي، كما سعت الرهبنة مذ ذلك الوقت لفتح مدارس أو غرف صفية للتدريس لنشر المعرفة والعلم وتعليم المرأة، أما الهدف الأكبر للرهبنة الرسولية فكان التصدي للهجوم البروتسنتي على الشرق للحفاظ على الإيمان الكاثوليكي، كما اتسمت روح الرهبنة بالتأمل الإنجيلي بالكتاب المقدس والانفتاح الشامل، وبدأت تلتزم بكل الأعمال (التربوية – الصحية – الاجتماعية والرعوية) معتمدة على الأولويات، وهي الأفضلية للأكثر عوزاً وللمناطق الأكثر إهمالاً، بوقت تواجدت الرهبنة في العديد من القرى في طرطوس مثلاً بقريتي جنينة رسلان والتفاحة اللتين لم تكونا معروفتين كثيراً، وفي ريف دمشق بمعلولا وصيدنايا والنبك ويبرود وأيضاً في صدد بدرعا، حيث انطلقت الرهبنة الرسولية بسورية بدمشق عام (1868م) وفي عام (1930م) تأسس دير ومدرسة طرطوس، سبقه افتتاح دير بصافيتا عام 1925م، طبعاً كان هناك مرحلة طويلة بين التأسيس والعمل في طرطوس حيث كانت الرهبنة تقوم بالتجوال قبل ذلك، أما اللافت فكان طلب وجهاء جنينة رسلان في ذلك الوقت من الرهبنة أن تفتتح الدير بطرطوس نظراً لحاجة الناس إليه، وذلك ما كان حيث جرى افتتاح الدير بجوار كاتدرائية سيدة طرطوس العريقة والتي تحولت لمتحف لاحقاً بعد أن طالتها العديد من التحولات والتعديات التاريخية أيضاً، وافتتح في الدير مدرسة للفتيات من منطقة طرطوس وبعض الضواحي مثل الخريبات وضهر صفرا، كما تم افتتاح قسم داخلي بالدير لتبقى فيه الفتيات القادمات من القرى طيلة الأسبوع بدل تكبد عناء السفر، وكان الدير يعمل على نشر الوعي والثقافة وتطوير القدرات والمهارات من موسيقا وفنون وتدبير منزلي، وحينها كان المقر البسيط يتوسع ويتطور مع الزمن، فاستعملت بعض الغرف فيه للتدريس والمنامة بنفس الوقت، كما فتح الدير بابه كسكن جامعي للفتيات اللواتي يتابعن دراستهن لما بعد البكالوريا حتى الثمانينات، كما افتتح صفوفه لتعليم المرحلة الابتدائية انتقالاً للمرحلة الإعدادية فيما بعد ويمكن أن نصف تلك المرحلة بالذهبية، ولاحقاً على ذلك وقبل افتتاح المرحلة الثانوية فيه كان قد تم الاستيلاء عليه بعام 1967م ليتبقى جزء صغير من العقار الذي كان موجوداً للدير، وفي القسم المستولى عليه تم افتتاح روضة القدس الخاصة الشهيرة ولاحقاً مدرسة الخنساء الحكومية للمرحلة الابتدائية
* تربية وتعليم :
سعت الراهبات لغرس القيم والأخلاق بنفوس الطلبة وتعليمهن أن الله معهن ويراهن في كل وقت، وكان الدير يخرج الكثير من الفتيات المميزات.. ممرضات أو عاملات أو مدرسات أو أمهات عظيمات يقدرن قيمة أنفسهن ويحترمن ويساعدن الآخرين ويجدن الاهتمام بعائلاتهن، وبنفس الوقت كان الدير يقدم العديد من الخدمات للفقراء والمحتاجين والمرضى ومن خلال القيام بجولات على القرى لتفقد ومساعدة الناس أيام العطل الأسبوعية، كما كانت الراهبات تعملن في عدد من مشافي طرطوس والقدموس واللاذقية، ليجتمع العمل الأكاديمي والاجتماعي والصحي مع العمل الرسولي المقدس، وفي مدرسة الدير كان يتم إعطاء الدروس النظرية والعملية ويتم تعليم اللغات التي تتقنها العديد من الراهبات، إضافة لتعليم العزف على البيانو والخياطة وغيرها من المهارات .. ومع بداية الأحداث بعام 2011 انتقلت الراهبات للعمل الاجتماعي لمساعدة الأطفال المتسربين من المدارس أيضاً، حيث أشارت السور ماري أن الدير واصل القراءة المستمرة لحاجات المجتمع على المستوى الإغاثي لمساعدة الفئات الأضعف، ومحاولة دعم المهجرين والناجين وصولاً للناجين من الزلزال حالياً.
* وصولاً للحضانة:
تنافس حضانة القلبين الأقدسين العديد من الروضات والحضانات الأحدث والأقوى تجهيزاً حتى اليوم، ويعود ذلك لعدة أسباب جوهرية منها الأمان والثقة بحسن إدارة الراهبات ورعايتهن للأطفال من جهة، وللرسوم المتواضعة لغاية هذه اللحظة مقارنة بجميع الحضانات الأخرى، حيث تشير السور “ماري” أنه وبعد تراجع دور الدير بفعل بعض الأحداث التاريخية كان على الراهبات أن يبقين منفتحات على المجتمع والخدمة الإنسانية، ولذا جاء افتتاح الحضانة كعمل ومشروع يستهدف دعم العوائل والأمهات العاملات، وبذات الوقت يعود ببعض المردود ليساعد الراهبات على الحياة، حيث تم تخصيص طابق من الدير كحضانة من (8غرف) تستقبل حوالي 90 طفلاً وطفلة من الثامنة صباحاً وحتى الثالثة ظهراً، والطابق الذي يعلوه أيضاً لإقامة ومنامة الراهبات اللواتي أصبحن 4 راهبات حالياً، فيما يعمل معهن عدة آنسات اختصاصيات في الحضانة، كما تعطي بعض الراهبات دروساً خاصة باللغة الفرنسية لكل من يرغب وبأجور رمزية جداً، وتتابع الأخت ماري التي قدمت من دمشق لدير القلبين الأقدسين بطرطوس في عام 2021 إن تأسسيس مؤسسات تربوية نموذجية اليوم يحتاج لإمكانيات أكبر ليست متوفرة لدينا، ولكن وضمن الإمكانات المتاحة لاتزال الراهبات يعملن بحب لخدمة الآخرين ولغرس بذور الأخلاق والفضيلة على اعتبار ركيزة الأخلاق هي الأساس لبناء المجتمع الصحي السليم والنهوض به من تحديات الواقع الحالي، كما نتابع الصلاة بقلب خاشع في هذه الأيام المباركة ليحل الأمن والازدهار في قلوب وربوع بلدنا العزيز والغالي علينا.
رنا الحمدان