الوحدة 10-4-2023
عندما يقرع باب بيت “الجد والجدة” أو بيت العائلة ليجتمع الأبناء والأحفاد والأقارب فيه خلال أيام الصوم، تختصر لحظة اشتياق لأجمل الذكريات، تجمعهم مائدة صنعت مكوناتها بالمحبة، ومأكولات يحمل كل صنف منها حكاية من حكايات المناطق والمدن السورية، حيث يسعى السوريون على اختلاف الظروف التي يعيشونها للحفاظ على هذا الموروث الذي يجمعهم ضمن طقوس روحانية مفعمة بالفرح.
الصوم.. ولمة العائلة
خلال شهر الصوم تسعى العائلات فيه لترسيخ القيم الإيجابية والمحببة والسلوكيات السليمة لدى أبنائها، كذلك العطاء في جميع أشكاله الإنسانية، كما أنه فرصة لاجتماع الأقارب والأصدقاء، هذا ما أوضحه الباحث في التاريخ والتراث السوري نصر فليحان.
وأضاف فليحان في تصريح لسانا: “تزهو المائدة الرمضانية بالأطباق اللافتة وأشكال الضيافة، استعداداً لاستقبال الأقارب تحديداً في أول أيام الصوم، وهذا العام للمة العائلة نكهة خاصة بعد اشتياق لطقوس غابت نوعاً ما لعامين متتاليين بسبب جائحة كورونا، والشغف يملأ القلوب بعودة اللمات والاجتماعات الأسرية”.
ولفت فليحان إلى أن الأصناف العديدة على المائدة تجذب الصغار والكبار، ترافقها أجواء من الفرح وسهرات تتواصل حتى منتصف الليل، حيث تسعى معظم العائلات للتمسك بهذه العادات رغم اختلاف الظروف التي يتعرضون لها.
وهذه الأيام بحسب فليحان ينتظرها أفراد العائلة كل عام، لما تحمله من سحر خاص، تفوح منها رائحة الذكريات والحنين لتلك اللمات على طاولة واحدة تتسع للجد والجدة والأبناء والأحفاد، يجلسون جنباً إلى جنب لتناول الإفطار معاً، ويتشاركون تفاصيله المحببة، كما أن التفكير في الآخرين وإطعام الفقراء والوقوف على احتياجاتهم، هو درس حي أيضاً في الشهر الكريم من خلال ما تفعله الكثير من العائلات عند انتهاء طهي الطعام، وتبادل الأطباق مع الجيران بما يسمى “السكبة” وما تضفيه هذه العادة من قيمة نبيلة عند الأهل والأبناء.
ما هي أبرز الأطعمة التي تتواجد على مائدة الافطار؟
تحرص العائلات السورية على أن يحضر على مائدتها العديد من المأكولات الشعبية والتي تتميز ببساطة تركيبها وسرعة تحضيرها، وهي غنية بالمواد الغذائية الضرورية، كما ارتبطت معظم المأكولات الشعبية بالمحافظات والمدن السورية.
وأكد الباحث في مطبخ بلاد الشام وبلاد الرافدين قبل الميلاد “سليمان عوكان” أن جميع المناطق السورية تشترك بطبخ “البرغل” ففي الساحل يطبخ “البرغل بحمص” وفي الجنوب يطبخ “المليحي”، وفي المناطق الداخلية يطبخ “البرغل ببندورة والمجدرة”، وفي المنطقة الشرقية يطبخ “الايتش والكبيبات والكتل”، أما في المناطق الشمالية في حلب وريفها فتطبخ الكبة بأنواعها، وفي القلمون استخدم البرغل لطبخ “كبة الحيلة”، وفي دمشق المشهور فيها الكبة اللبنية والشيش برك.
وأشار عوكان إلى أن المشترك في المطبخ السوري هو “حبة القمح” فبالعودة إلى الوثائق تأكد اكتشاف الزراعة في الألف الثامن قبل الميلاد، حيث وجدت البعثات الأثرية أن الزراعة ظهرت لأول مرة في السهول والوديان الداخلية التي ترويها الأمطار في سورية، وهو ما ذكره كتاب “صعود الحضارة من المزارعين الأوائل إلى المجتمع الحضري في الشرق الأدنى القديم” للمؤلف تشارلز ريدمان.
وبين عوكان أنه في عام 1965 قامت بعثة أثرية فرنسية ضمت نخبة من علماء الآثار بحفريات في موقع تل المريبط غرب الرقة بنحو 100 كم والذي كان مهدداً بالغمر بمياه سد الفرات، واكتشفت آلاف اللقى الأثرية المهمة التي تحدثت عن بداية الاستيطان البشري وظهور الزراعة بهذه المنطقة، ومنها انطلقت إلى جميع الاتجاهات، فكانت تلك المرحلة حاسمة بتاريخ الإنسانية.
وأضاف عوكان: “أراد ساكنو بلاد الشام والرافدين اختراع طريقة لخزن القمح والاحتفاظ به، فكان “سلق القمح ودقه”، وسموها “برغل” ف “بر” تعني “قمح” و”غل” تعني الاحتفاظ والخزن”، موضحاً أن السوريين القدماء أدخلوه في طعامهم كل بحسب تطور أدواته والمواد المتوافرة لديه، فتمايزت الطبخات السورية ولكن أغلبها إلى الآن بعد التطور الكبير الذي حصل لها على مر الأزمان يعتمد على البرغل.
وتابع: “كل هذا التطور في الطعام جاء من أول حبة قمح في التاريخ وعرف عن السوريين القدماء بحسب الرقم الطينية المكتشفة وجود آلاف الأصناف من الأطعمة، وهذا ليس بغريب عن منطقة احتوت أقدم مطبخ احترافي منذ 2000 عام قبل الميلاد في مملكة إيبلا”.
350 نوعاً من الخبز صنعه السوريون قبل الميلاد