العدد: 9276
الأربعاء 23-1-2019
الكاتبة: د. غيثاء قادرة
ليس عبثاً ما قاله أبو العلاء المعري منذ قرون – وهو الفيلسوف الذي خبر الحياة من الصوت , ولقنه الصَّمت عبراً, سطَّر له أرتالاً من المداليل و أبعاداً من الرؤى – : وقد تنطقُ الأشياءُ وهي صوامتُ….وما كلُّ نطقِ المخبرين كلامُ
عدَّ المعرِّي الصَّمتَ لغةً أخرى أشدُّ حضوراً من الكلام في ظلّ وفرة الكلام, وعذوبة ينابيعه تارة, وتلوثها تارة أخرى, إذ لم تعد الأشجار يانعة, كما كانت, فما من سبيل إلَّا اللَّوذ بالصَّمت يخفي في جرار الروح أعتى العَبرات وأبلغ العبارات, وفي عينيه الجائلتين في رحاب المدى المنظور يختزن بيان التعبير, وللغة الجسد يترك مهمة التفسير والتأويل، والسؤال المهم هنا: كيف يُخْبَر الرَّائي هذه اللغة؟ كيف يعي أبعادها, وهو الواعي بسيادتها واستبدادها رغم أن تجاهله صوتها بلغ زباه..
قد لا تكفينا مفردات النصح والإرشاد -على أهميتها- لتبليغ الرسالة, فنظرةٌ ملقاة في وجه من نحب كفيلةٌ بتبليغ ما نحمل من آراء ورؤى ومشاعر، وقد تُضمِرُ البسمةُ معنى يُغنِي عن سرد كلمات, وتحمل العينان جدلاً طويلاً في رؤية تصطرع الرؤى فيها، كم من الانحسار يصيب المفردات ويحدُّ من انطلاقها أحياناً, كم من أسيجة وحدود تُردي التعبيرَ الكلامي جانبا, لتقدِّم ما هو أشد حضوراً منه ؟ في لغة تبوح بأسرار, وتاريخ و حقائق غائرة في خفايا النفس, كم يواري الصامت ما باطَنَ الذات, وكم يعطي الكلام قيمته وهويته إذا كان صمته عن وعي، صمتاً ممتداً في كل الجهات, منتشراً في الأعماق؟ إذا كان صمتاً يمارس تأثيره في الأشياء, بانتظار لحظة الإفلات، فالصامت عن وعي يصرخ من علياء سكونه, يوقظ في أعماق المصغي جدل الأفكار, ولعل رائعة الموناليزا للفنان الإيطالي (ليوناردو دافنشي) رمز الصمت المباح, الصارخ أمام أقلام الشعراء, خير دليل, فهم ما انفكوا يوشُّون نصوصَهم عمقاً يستحضر نفسيَّة الموناليزا, ورؤاها, وخفايا عينيها, ونظرتها, ما فتئوا يخترقون صمتها اللُّجِّي في تفاصيل وجه حاروا بتأويلاته, تيقظت الرؤى عندهم فاستحضرت صوراً تجول بلا توقف في ثناياها, تطارد الحيرة من أمرها، فالشاعر الألماني (بروتو استيفان) قال عنها في لوحته (المرأة المرأة): ابتسامة مفعمة بسحر السِّر، فيها الحنان والجمال، أتراها تغوي ضحيّتها، أم تهلّل لانتصارها، من أحسَّها واستكنه سرَّها، في أعماق روحه، استشعر الحكمة، وواجه كل الكلمات، وكل الأعمال بابتسامة، فما عاد شيء يفزعه، في ساعة الموت..
والشاعر الإيرلندي مانويل ماتشادر قال في صمتها: أين تتوه العين الغامضة وتسرح، أتفتّش عن سرٍّ خلف قناع، أيكون السِّرُّ الهائل، قد مللت القلب عليها ؟. وغيرهما من الشعراء الذين رأوا في الصمت اختراقَ المحظور, والتهيّؤ لإفصاح عما يخالج النفس…
في الصمت تتعدد اللغات, فبعضهم غطّى صمته منطقة سوداء مهملة في كينونته, وفي ذاكرته, دارى في صمته الإخفاء, وربَّما الضعف والاستكانة.
ليس خافياً تعالق الصمت المبِدع بالإصغاء التماساً لفعل الفكر والتلقي المبدِع, فلا بدّ من اقتران الصمت بالإصغاء ليغدو الصمت فعَّالاً, وليس أدلّ على ذلك مما جاء في القرآن الكريم (إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) في إطار تعزيز الإيمان واحترام ما يُتلى من الآيات, ومن هنا يتوجب تعليم الأبناء, وتدريب الناس عليه، وقد حثَّ رسول الله (ص) على لزوم الصمت وحفظ اللسان فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ما يؤكد ضرورة السيطرة على الذات والآخر عبر صمت معبَّأ بنظرات ومعان غير منطوقة تجعل الآخر حائراً في تفسيرها، الصمت إصغاء للذات, وأسلوب مراجعة وتذكر, وهو كما قال عمرو بن العاص: يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولك والتركيز بعقلانية على إجابتك.
ويأتي الصمت – أحياناً- حاجة تفرضها دوافع نفسية بيولوجية, في لحظة يغدو التوازن فيها سيد الموقف, ابتعاداً عن الانفعال, وهذا تتكثف أهميته وتظهر في مجالات التمرينات العلاجية, وتمرينات اليوغا، وكما جاء في حديث (أوشو): الصمت فسحة يمكننا فيها أن نصحو.
إن تاريخ الصمت هو أكثر عمقاً وغنى وإثارة من تاريخ الكلام المسموع, والكتابة المقروءة إذا دُقِّق بعمق مركَّز في حقيقته التي تعلن عن نفسها في مواقف لم يرفع عنها الستار.
تعمل الذات الصامتة – في بعض الأحيان- على خلق إمكانات إبداعية تتحدى من خلالها عملية القهر النفسي المعيش، مصورة الإصرار على الثبات أمام استلاب الواقع, وقد تسعى الذات الصامتة إلى تحقيق مطامحها على الآلام متجاوزة رؤيا سوداء.
الصمت – باختصار- حديث الذات للذات, عبر الذات الموغلة في فيافي النفس, وملاجئها, وسراديبها العصية على سلطة الكلام، هو أشقُّ على العقل من الكلام, ففيه تفكُّر وتعقُّل وتجلٍّ، ما بين الصمت والكلام يصدح السكون, توسع الذات في آفاق صمتها الحدود، الصمت يعلمنا حسن الاستماع الذي افتقدناه في زمن الصراخ واللاجدوى من الكلام.