الوحدة: 25-6-2022
الأدب نتاج تلقائي وممنهج لخلاصة فكر روحي عبر بوابة الكلمة، التي تسطر ملامحها جدلية من الحقائق المتعددة حين تتصارع داخل كلّ امرئ أومجتمع أو أمة. هو البوح في حاجة الإنسان للتواصل بين طرفيه الذاتي والخارجي، يعبر بوابات تشكلُ ثوابت معرفية أخذت عبر التاريخ كل الأشكال الممكنة وضمن الوسائل المتاحة، ولأن التجربة الإنسانية بفكرها عابرة للمسافة بشكل تلقائي، تشكل ما يسمى بمفهوم الأدب العالمي، الأدب الذي قرأته عديد من الشعوب بقومياتها وجنسياتها المختلفة، ومع تطور حركة الإنسان في اختصار تلك المسافات وظهور أشكال حديثة من الاتصالات، صار للأدب قياساً في سرعة وصوله وانتشاره عالمياً، وخاصة بعد انتشار الانترنت ليصير الكون قرية عالمية بحق، فهل بقيت الثوابت التوصيفية للأدب العالمي كما هي، أم أن سهولة الوصول والانتشار جعل له مفاهيم أخرى جديدة وقوانين تؤطر هذا الجانب الثقافي المعرفي؟.
ورد مصطلح الأدب العالمي لأول مرة على لسان “غوته ” الذي قال خلال حديثه مع صديقه “ايكرمان” عام 1827م :” أنا مقتنع بأن أدباً عالمياً أخذ يتشكل، وأنّ جميع الأمم تميل إلى هذا، إننا ندخل الآن عصر الأدب العالمي، وعلينا جميعاً الإسهام في تسريع ظهوره هذا العصر”.
وعاد غوته خلال مراحل حياته إلى تكرار تناول هذه المسألة.
كما أشار إليه دانتي خلال دراسة له بعنوان ” حول الملكية إلى وجود حركة ثقافية عالمية “، كذلك تحدث العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء الألمان والفرنسيين عن مفهوم ما يسمى بالأدب العالمي هذا النتاج الأدبي الإنساني المشترك، كما تحدث” شيلر” عن مفهوم التاريخ العالمي وتحدث “هيغل” عن مفهوم الروح العالمية.
ظلّ مصطلح الأدب العالمي يتسم بالغموض وليس له تعريف محدد أو مفهوم واضح متفق عليه من الباحثين، وهناك العديد من الخصائص أو التعاريف التي بُوِّبَتْ في أربع تقسيمات وهي: الأولى:” المحصلة الكمية للآداب القومية لكافة الشعوب طوال التاريخ البشري بصرف النظر عن المستوى الفني والجمالي لنتاجاتها”.
ويؤخذ على هذا المفهوم أنه جعل الأدب العالمي شيئاً غامضاً وفضفاضاً لا يمكن حصره وتصعب دراسته.
أما الباب الثاني:” إجماع النماذج الإبداعية المختارة التي قام بها مبدعون ذات قيمة جمالية وفنية عالية”.وهذا المفهوم يستثني النتاجات المتوسطة أو الظواهر السطحية الشائعة في الآداب القومية.ويرى بعض الباحثين الأوربيين أنّ الأدب الأوروبي الكلاسيكي والمعاصر هو الذي يمثل الأدب العالمي، ويؤخذ عليه أنها وجهة نظر أوروبية ضيقة لا تمثل الأدب إلا من خلال منظور الثقافة الأوروبية، وبالنسبة للآداب الشرقية فهي تُستبعَد من نطاق الأدب العالمي لأن نتاجاتها لمْ تصبح في متناول الأيدي البشرية بأسرها.
أما الباب الثالث : فهو عملية التأثير والإثراء المتبادل للآداب القومية والتي تظهر في مرحلة متقدمة من التطور الحضاري.
أما الباب الرابع : فيقوم على الصفات العامة التي يتسم بها تطور آداب مختلف الشعوب في جميع العصور وهو ما أشار له مكسيم غوركي حين قال:” إنه لا يوجد أدب عالمي لأنه لا توجد لحد الآن لغة مشتركة بين جميع شعوب الأرض، ولكن الأعمال الأدبية لجميع الكتاب مشبعة بوحدة المشاعر والأفكار والآراء الإنسانية العامة وبوحدة الآمال والإمكانية لتحقيق حياة أفضل”.
وهو ما اعْتُبْرَ الأقرب إلى الفهم الحديث لمصطلح الأدب العالمي.
لكن انتشار مفهوم الأدب العالمي وبقائه ربطه البعض بمكانة الدول ونفوذها السياسي والاقتصادي وعدد سكانها ومدى انتشار لغتها التي تلعب دوراً كبيراً في الاعتراف العالمي بكتابها الذين يعكسون حياتها الروحية في نتاجاتهم، أما آداب الشعوب الصغيرة وحسب معتقداتهم بلغاتها القليلة الانتشار فإنها تحتل مواقع أسوأ من آداب الشعوب الكبيرة واللغات الواسعة الانتشار من حيث الاعتراف بها، وصار للأدب تصنيفاته المتعددة مثل الأدب الأوروبي أو الأميركي أو الروسي أو أدب أميركا اللاتينية بما يحمل كل أدب من خصائص وصفات.
لكن وبعد ظهور التكنولوجيا بتقنياتها ولغتها التي أصبحت لغة عالمية، حيث انتشرت وتأصلت وفرضت نفسها بقوة على العالم، صار للأدب لغة موحدة اختصرت المسافة وربما محتها تماماً كما اختصرت الزمن وقولبته على مواعيدها وتوقيتاتها، وصارت التكنولوجيا البوابة الأوسع التي فتحت مصراعيها لكلّ نتاج أدبي تتجاوز المسافة إلى العقل والروح معاً إلى خلق حالة فكرية منفتحة أطّرتْ البشرية ضمن فكر فلسفي وإنساني متقارب، فلم يعد ثمة آداب عالمية متعددة بل أدب عالمي واحد يلغي فيها كل التصنيفات والتسميات التي تمايز الآداب عن بعضها لتبقى الحالة الإنسانية الموصوفة بتجربتها العقلية والروحية تختصر كل المفاهيم بطريق مباشر لهذا الإنسان وعقله، وكما قال غوركي :” الأعمال الأدبية لجميع الكتاب مشبعة بوحدة المشاعر والأفكار والآراء الإنسانية العامة وبوحدة الآمال والإمكانية لتحقيق حياة أفضل”.
المستقبل ربما بسنينه القليلة القادمة ستكشف عن هيكل إنسانها الجديد وطبيعة فلسفته وشكل إنسانيته المترجِمة لخلاصة الجدل الفكري بينه وبين الآخر القريب جداً، حيث هو بين يديه.
إعداد سلمى حلوم