الوحدة : 15-6-2022
لوحظت غزارة مرتفعة استثنائية لأحد الأحياء البحرية الهلامية شبه الشفافة على شكل جائحة في الساحل السوري عامة وساحل مدينة بانياس خاصة منذ مطلع شهر أيار 2022 حتى الآن، مما سبب الإرباك للصيادين ومرتادي البحر خوفاً من أن يكون نوعاً لاسعاً أو ساماً، ولدى التقصي وجمع عينات منه تبين أنه نوع من قناديل البحر المشطية، يدعى Mnemiopsis leidyi أو جوز البحر نظراً لحجمه وشكله الذي يشبه ثمرة الجوز (عين الجمل)، ينتمي هذا النوع إلى شعبة حاملات الأمشاط، وهي مجموعة صغيرة من الحيوانات البحرية ذات الأجسام الهلامية الشفافة، تعيش حرة هائمة بشكل فردي أو بشكل تجمعات في معظم البحار والمحيطات، وتضم هذه الشعبة حالياً حوالي 190 نوعاً فقط منها 30 نوعاً في البحر المتوسط، وقد جرى تسجيل خمسة أنواع في الساحل السوري بما فيهم هذا النوع. تُعد مصبات الأنهار في السواحل الشرقية لأمريكا الشمالية والجنوبية المطلة على المحيط الأطلسي هي الموطن الأصلي للنوع M. leidyi، ومنه انتقل إلى البحر الأسود في ثمانينيات القرن الماضي مع مياه صابورة السفن، حيث انتشر انتشاراً واسعاً، وأدى إلى أضرار بالغة في المخزون السمكي تجاوزت 300 مليون دولار في حينها، ثم انتشر في بداية تسعينيات القرن الماضي في بحر مرمرة، ومنه إلى البحر المتوسط مع مياه صابورة السفن والتيارات البحرية، ويعدّ عالمياً من الأنواع الغازية سريعة التكيف والانتشار في بيئته الجديدة، وذلك بسبب تكاثره ونموه السريعين، حيث تعطي الأفراد البالغة الكبيرة حوالي 14000 بيضة لكل فرد، وتبدأ الأفراد الجديدة في إنتاج البيض عندما تصل إلى متوسط طول يبلغ 2.6 سم في غضون 13 يوماً بعد الفقس، وتنتج 2000-3000 بيضة يومياً لكل فرد اعتماداً على توافر الغذاء، ونظراً لكونها حيوانات خنثى، حيث تقوم بالإلقاح الجنسي الذاتي، فمن الممكن أن يبدأ فرد واحد من تكوين مجموعة جديدة بالكامل من الأفراد الغازية. بالإضافة إلى تحمله لمجال واسع من تغيرات درجة الحرارة الملوحة، وهذه الخصائص التي يتميز بها تمكنه من التأثير على العوالق الحيوانية، وبالتالي على الثروة السمكية، لذلك يعدّ واحداً من أسوأ 100 نوع غازٍ في العالم. يتميز هذا النوع بأن جسمه هلامي شفاف عديم اللون، بيضوي الشكل، يتراوح طوله بين 1 و12 سم، وقطره نحو2.5 سم،
و يمتد على طول الجسم ثمانية صفوف من الصفائح المهدبة تشبه الأمشاط تكون مميزة لأفراد هذه الشعبة، تُصدِر هذه الصفائح أثناء حركتها إضاءة حيوية بألوان براقة شبيهة بألوان قوس قزح. يتغذى هذا النوع بشراهة كبيرة على العوالق الحيوانية، وبيض ويرقات الأسماك، وعلى الأطوار اليرقانية الأصغر حجماً منه، ويستهلك ما يصل إلى 10 أضعاف وزنه يومياً، يساعده في ذلك الخلايا اللاصقة التي تنتشر على سطح الجسم والمجسات. لذلك تؤثر غزارته الكبيرة سلباً في المخزون السمكي كونه يتغذى على بيض الأسماك ويرقاتها، وافتراس العوالق الحيوانية الغذاء الرئيس للأسماك، بالإضافة إلى تأثيره في الصيد البحري من خلال تمزيق الشباك، إضافة إلى المشاكل والأضرار التي تسببها هذه القناديل في أنابيب تبريد محركات السفن والمنشأت الصناعية التي تعتمد على سحب ماء البحر لتبريد عنفاتها كالمحطة الحرارية في بانياس. يتميز هذا النوع بوجود خلايا دبقة خاصة تدعى بالخلايا اللاصقة، بينما تغيب الخلايا اللاسعة تماماً بعكس أنواع قناديل البحر التي تنتمي إلى شعبة اللاسعات والتي تملك خلايا لاسعة. لذلك فإن هذا النوع غير مؤذٍ للإنسان في حال اللمس أو التماس معه، ولا يشكل أي خطر على الصحة. لاتزال الأسباب التي أدت إلى هذه الجائحة الاستثنائية للنوع Mnemiopsis leidyi والتي تسجل للمرة الأولى في المياه السورية بعد مضي 3 سنوات تقريباً على تسجيل وجوده في الساحل السوري، ومع ذلك، فإن الانتشار الساحلي الكبير الذي رصد في كلٍ من البسيط وابن هاني وبانياس قد يكون ناجماً عن دفع التجمعات الكبيرة الموجودة في عرض البحر إلى الساحل بفعل العوامل الجوية، والتيارات السطحية المصحوبة برياح شمالية غربية قوية. كما يمكن أن تعزى هذه الجائحة الاستثنائية إلى غياب قنديل البحر الرحال روباليما نوماديكا والذي يظهر عادة في أشهر شباط وحتى أيار ويتغذى أيضاً على العوالق الحيوانية مما يحرم النوع M. leidyi من غذائه الرئيس، وربما يتغذى على النوع M. leidyi أيضاً، وقد وجدت الدراسات علاقة افتراس واضحة بين قناديل البحر اللاسعة على النوع M. leidyi، مما يسهم في خفض غزارته بشكل واضح عند تواجدهم معاً. كما أسهم ارتفاع درجة الحرارة في تنشيط حركة القنديل وصعوده إلى السطح، حيث غزارة العوالق الحيوانية أكثر، وبالتالي في زيادة معدلات التغذية والنمو، بالإضافة إلى ترافق ظهوره مع موسم تعشيش الأسماك في الحوض الشرقي للبحر المتوسط. وقد يعود سبب عدم اليقين في تفسير هذه الجائحة إلى غياب البيانات السنوية لتوزع هذا النوع وغزارته في شرق البحر المتوسط. يعدّ هذا النوع، بالإضافة إلى بقية أنواع قناديل البحر، التي تنتمي إلى شعبتي المشطيات واللاسعات، غذاءً لسلاحف البحر، وبعض الأسماك، ووجبة ثانوية للسرطانات وبعض الطيور البحرية. وقد أدت التغيرات المناخية، والتدهور البيئي في البحر المتوسط عامة وحوضه الشرقي خاصة إلى حدوث خلل في التوازن البيئي بين المجموعات الحيوانية، وأسهم قلة الأعداء الطبيعيين في ازدياد عدد قناديل البحر بشكل كبير، وباتت تسبب عدداً من المشاكل البيئية والخسائر الاقتصادية، وإذا استمرت ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة الملوثات فستكون لصالح قناديل البحر المهاجرة والغازية التي تنافس الأنواع المحلية أو تُقصيها، كما يعد هذا الازدياد الكبير، دليلاً على جسامة التأثيرات البشرية، والتغيرات المناخية والبيئية، التي أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة. لا تعدّ مسألة مكافحة قناديل البحر مسألة تقنية فحسب، وإنما تتطلب المزيد من الوعي تجاه المخاطر المحدقة بنا مالم نتحرك بسرعة لمواجهتها. تشمل أساليب المكافحة مقترحات عدة يمكن إيجازها بالآتي: – فرض قوانين وتعليمات إلزامية صارمة بالنسبة لمياه الصابورة، كمحاولة لخفض الأنواع الدخيلة عبرها، حيث يتوجب على كل سفينة تجري تبديل مياه صابورتها على بعد لا يقل عن 200 ميل بحري وعمق مياه لا يقل عن 200 متر. – إنشاء محطات معالجة مياه الصرف الصحي المنزلي، وعدم طرحها مباشرة في الأنهار والبحار دون معالجة. – الحد من ردم السواحل، ومنع إحداث أي تغيرات طبوغرافية للشواطئ. – حماية السلاحف البحرية، وإنشاء محميات طبيعية للمحافظة على تنوعها الحيوي. – الحد من طرح النفايات والملوثات ومياه الصرف الصناعي غير المعالجة، والضجيج، والغازات، والأبخرة المنبعثة، والمياه الحارة أو ما يعرف (بالتلوث الحراري). – التقيد بقوانين حماية المخزون السمكي وذلك بتحديد عدد القوارب، ومعدات الصيد والوقت المخصص للصيد، وأنواع الشباك المستعملة، ومنع الصيد في أوقات التفريخ والإباضة، ومنع استعمال الديناميت في الصيد حتى لا تتخرب موائل الأسماك.
الدكتور سامر ماميش دكتوراه في البيولوجيا البحرية – اختصاص قناديل البحر