من عبق الذاكرة…

الوحدة: 15-7-2021


هكذا تمتد الذاكرة لنهاية فارس ترجل، ولم يزل عبق عطرها يفوح لينتشر في أرجاء الوطن بعظيم إنجازاته، وفخر إبداعاته، إنه الطبيب العالم وجيه البارودي .

الأديب المحامي معتز البرازي كان من أجدر من يتحدث ويسهب في وصف هذه القامة الأدبية والعلمية في محاضرة ألقاها في المركز الثقافي العربي بطرطوس بعنوان (وجيه البارودي.. طبيب بارع وشاعر ظريف) والبرازي خير شاهد على زمن عاشه وعايشه طبيب وشاعر أم الفداء…

عاش البارودي أحداث الحرب العالمية الأولى التي انتهت وله من العمر اثنا عشر عاماً، أوقفته وغيره من أبناء عصره عن متابعة الدراسة ليسافر إلى بيروت عام 1918 ويلتحق بالكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية حالياً) درس فيها الابتدائية والثانوية والجامعية وتخرج منها سنة 1932 كطبيب عام ممارس..

ليفتتح البارودي أول عيادة طبية له في حماة ذات العام، واستمر في مهنته دون توقف ثلاثة وستين عاماً عرف خلالها بالطبيب العالم والإنسان بكل ما تحمله الكلمات من معان حتى لقب بأبي الفقراء، وتحدث عن حبه للفقراء بشدة وعداوته للمال، قال في ذلك:

وبيني وبين المال قامت عداوة فأصبحت أرضى باليسير من اليسير، وأنشأت بين الطب والفقراء لغة، مشيت بها في ظل ألوية النصر.

ما دفع وزير الصحة لتقديم درع الوزارة في حفل تكريم أقيم له في فندق ميريديان دمشق سنة 1991م… كانت سبقته لذلك مدينته سنة 1975 لبلوغه السبعين من عمره، وكان حفلاً مشهوداً قل نظيره تحدث فيه نخبة من الأدباء والنقاد والشعراء…

على الرغم منه توقف الطبيب البارودي عن مزاولة المهنة، فلما قارب التسعين تهتكت شبكتا عينيه، وصارت الرؤية لديه ضئيلة جداً، وفي عام 1995 قضى فريضة الحج وكان لها أثر بالغ في قلبه وواضح في شعره، من رائع ما قاله قبل رحيله بأيام:

أصلي لا أمل، وفي صلاتي دعاء يمحو الذنب الرديا.

 يمهد لي صراطاً مستقيماً وينفخ في العما فأرى جليا.

ولا موتاً أخاف لأن ربي سيلقاني بجنته حفيا.

فجر الحادي عشر من شهر شباط سنة 1996 توفي الطبيب العالم البارودي وشيع إلى مثواه الأخير في حماة في موكب مهيب..

للشاعر الطبيب ثلاثة دواوين الأول طبع سنة 1950م بعنوان (بيني وبين الغواني)، وفي عام 1971م طبع ثاني دواوينه حمل عنوان ( كذا أنا) ويضم الشعر الذي صاغه في واحد وعشرين عاماً، أصدر ديوانه الثالث (سيد العشاق) سنة 1995م .

توفي البارودي وديوانه (حصاد التسعين) لم يزل مخطوطاً، ولم يطبع إلى اليوم، وفي هذا الديوان خلاصة شعره وشعره وشخصه طيلة حياته، فسلوكه وطريقة معاشه وتصرفاته لا تختلف عما تناوله في شعره، لذا نجد الصدق في التجربة والتعبير.. قال في هذا:

شعري حياتي من أراد تعرفا بي فهو عني الترجمان الأفضل.

تفوق البارودي في سيره ومسيره في ثلاث: الطب والشعر والحب، لكنه أخفق في خوض غمار المضمار السياسي يقول في ذلك:

حكيم خبرتي تسعون عاما

  ومدرستي التجارب والعلوم  

كان للشاعر موقفه المناوئ للشعر الحديث الذي كان يدعوه (الشعر المنفلت)، ورأى فيه مؤامرة على اللغة العربية التي هي فضيلة الأمة العربية ومصدر عزتها وكرامتها…

وصمت ألفاظه بالعربية السليمة، والاصيلة الفصيحة، فإذا بالعبارات سهلة، والمعاني واضحة، والأسلوب غاية في الأناقة وأثر مهنته ظاهرة في ألفاظه، وقارئ شعره يستدل بسهولة على أنه طبيب عالم ومثقف كبير، وشعره بعيد عن الجفاف العلمي، كما في قوله:

 سأغتنم الدقائق والثواني سأسهر لن أضيع الوقت قتلا.

فرب دقيقة لفحت بحب أتتني من صميم الغيب حبلى.

من أعلام سورية الأحقاق، ترك بصماته المشرفة في كل أسرة في حماة، فلا يزال أهالي المدينة يذكرون سيد الأطباء وسيد المصلحين لطبيبهم وشاعرهم حتى أنه لا يكاد أحد من أهالي حماة إلا وله قصة معه ويعدونه علماً ورمزاً لمدينتهم فاقترن اسمه باسمها…

نعمى كلتوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار