الوحدة : 11-7- 2021
ثمة اختلاف جوهري بين الصمت المعرفي، وصمت الجهل بالشيء أيًّ كان، فالصمت المعرفي هو سمة الروح في بحثها عن الغنى واكتشاف الكون وجوهر الأشياء، والبعض يطلق عليه الصمت الصوفي، بينما صمت الجاهلين هو حالة من الخواء فارغة من المعرفة والمضمون.
المقارنة هنا تبدو فلسفية في مضامينها ولهذا رأينا أن نلتقي بصاحب الاختصاص ليحدثنا عن أهمية الصمت المعرفي أو الصوفي، فكان لنا هذا اللقاء مع د. ميساء علي (قسم الفلسفة اختصاص أديان وتصوف) والتي بدأت حديثها بالقول: إن الصمت سمة الروح في معراجها المعرفي، ورحلة الذات بغية التماس حقيقة الغيب الماورائي لذلك سأدعوه بالصمت المعرفي تمييزاً له عن الصمت الخاوي والفارغ من الكلام والمجرد من الروحانية المتعالية، فالصمت الصوفي ينمّ أو يعكس محاورة معرفية بين الذات الإنسانية والذات الإلهية لا يجيد إتقانها إلا الحكماء، حيث جاء على لسان الإمام الرضا عليه السلام (الصمت باب من أبواب الحكمة… إنه الصمت يكسب المحبة… إنه دليل على كل خير)، من هذا المنطلق يبدو أن الصمت دلالة الحكمة فقد ورد أيضاً عند الصوفية أقوال كثيرة في هذا الباب نذكر منها على سبيل المثال: الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر، وتتابع د. ميساء علي حديثها مشيرة إلى أن أهمية الصمت لدى الصوفية ترجع إلى المكانة القدسية التي تحلى بها كونه أدباً من آداب الحضرة، فقد جاء في كتاب الله عز وجل: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، فضلاً عن كونه إحدى الخصال التي تميز المؤمن من غير المؤمن. وتابعت د. ميساء: انطلاقاً من الوقوف على أهمية الصمت كان لزاماً على الصوفي تعلمه بقولهم الصريح والواضح: تعلم الصمت كما تتعلم الكلام، فإن كان الكلام يهديك فإن الصمت يقيك، والسبيل الوحيد لتعلم الصمت هو الخلوة التي من خلالها تتم مناجاة الله والتقرب منه، والصمت الذي يعول عليه الصوفية الصمت المعرفي وهو مخصوص حديثنا، فالصمت المعرفي صفة العارفين الواصلين المتخصصين بالكشف والمشاهدة، ومن ثم الوصال عندئذ يكون الصمت علامة الوصول والمعرفة اليقينية، ومعيار خوض التجربة الروحية بامتياز، فمن لم يبلغ الصمت لم يجرب، لم يتذوق، لم يحيا معرفياً وإنما بقي في حيز الوعظ والإرشاد والكلام الذي لا طائل منه، فالصمت الذي لابد للصوفي التحقق به هو الصمت الذي يجاوز المادة إلى خير الروح والوهم إلى الحقيقة ليعتلي فضاء المعرفة لذلك كان حريّ بنا أن نتوقف عند بعض التجارب الصوفية لمعرفة بداية الصمت (بداية المعرفة) وكيف ترجمها أصحابها بلغة تعبيرية رمزية بخلاف بعض التجارب الصوفية التي ظلت حبيسة النطق والكلام .
واستطردت د. ميساء علي: استبد الوجد بروح رابعة العدوية وهو ذاته، أي الوجد حرمها متعة الصمت فأجادت العشق دون صمته وظل الوصال حلماً لا ينتهي بالنسبة لها، فلنتأمل قولها: حبي الله قد ملأ قلبي إلى حدّ لم يجعل مكاناً لمحبة غيره أو كراهيته بينما العشق والوجد ذاته حلق بالرومي ليعيش تجربة الصمت التي توجت بمكانة رفيعة يبلغها الواصل وهي منزلة الإمامة التي فيها تنسدل الحجب عن المعارف والحقائق وهذا يتضح في قوله: الزم التسليم والصمت تماماً، فلست دون الجميع إماماً فلن يبلغ أحد، بغير هذا العشق الإمامة، كما أوضحت د. ميساء علي قائلة: نرى تفاعل ثلاثة عناصر (التسليم، الفناء، الصمت) معلنة حقيقة المعرفة التي امتلكها الصوفي العارف الواصل دون الصوفي السالك، وقد يختلط الأمر على القارئ حيث يصعب عليه معرفة لحظة الصمت عند الصوفي بسبب تخلل التجربة لحظات صمت من بدايتها حتى نهايتها، فهناك الصمت الناجم عن الحيرة التي تنتاب الصوفي جراء تعاقب التجليات الإلهية اللامتناهية، وهذا نوع آخر من المعرفة، غير أنها معرفة يكتنفها الغموض والشك وهذان النوعان من الصمت (الصمت المعرفي والصمت المحيّر) يختلفان عما يمكن أن نسميه بالصمت الفارغ الخاوي من المعارف والمعاني الذي لابد أن تتعلمه النفس في بداية التجربة وهو من قبيل إتقان قلة الكلام أو انعدامه في الغالب كي تتروض النفس وتستعد لتلقي فيض المعارف التي تتدفق من الصمت المعرفي، وختمت د. ميساء علي حديثها بالقول: الصمت منزلة رفيعة، فإذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب، لأنه يضع المرء في مواجهة ذاته والوجود بشكل عام لاكتشاف التخوم العصية على الإدراك علّها بالصمت تتفتح وتفصح عن نفسها.
ياسمين شعبان