تعلق روحي…

الوحدة 19-1-2021

 

لم تكن ولادتي سهلة كما علمت، فوالدتي التي لم ترغب في إنجاب ولد آخر لتضيفه إلى قائمتها البائسة في ذلك المنزل الحجري البارد استنفذت كل الوسائل الممكنة لتتخلص من جنينها البغيض، لكن ذلك الجنين كان قوياً وتمسك بالحياة بل وأكثر، لقد جاء مخالفاً لوضعية الوليد الطبيعي فكان أول ما أظهره للحياة مؤخرة كبيرة.

وظلت هذه السمة ملازمة لي، فأنا أيضاً امتلكت رأساً كبيراً لم يكن من السهل التحكم به أو تسييره حسب أهواء أحد.

يئس والدي من محاولة السيطرة علي، بعدما أدرك كوني ابناً متفرداً لا أغير موقفي إرضاء لأحد طالما أني لا أخالف الأدبيات العامة الأخلاقية والدينية، أعرف حدودي ولا أسمح لأحد بتخطي حدوده معي، وعندما كانت والدتي تشعر بعجزها أمامي تصرخ بصوتها العالي لتسمع بنات جيراننا في محاولة إحراجي: منذ يومك الأول في الدنيا  أتيت مخالفاً وأدرت لنا مؤخرتك.. فماذا سننتظر منك؟

كنت أقهقه بلا همّ وأرفع صوتي دون أن أكترث: من يأكل الثوم سيشم رائحته؟

وتركض أمي ورائي وهي ترميني بما تطاله يدها القوية.

لم يحدث أن اشتكى أحد من تطاولي عليه بكلمة أو غيرها، ولكن لم يمض  يوم دون  الشكوى من برودة دمي وعدم اكتراثي بالملاحظات والمواعظ التي بدأت أتلقاها منذ نعومة أظافري من الفاشلين الذين كان والدي أولهم، فكيف لرجل تخلى عن حلمه أن ينصحني بعدما حصر نفسه في قرية فقيرة متزوجاً ابنة عمه الأرملة لينجب عشرة أولاد لا يفصل بين واحدهم وأخيه إلا أقل من عام..

أي خبرة ستقدمها أمي التي لم يعلو وجهها فوق بطنها أو طبق العجين أو التنور..

عمي، الخبير السياسي بالنساء كما يظن نفسه، يجمعنا ويبدأ كل مساء في سرد مغامراته التي لم يجرؤ عمر بن أبي ربيعة على ذكرها في شعره، وينحسر صوته بمجرد أن يسمع صوت زوجته الخشن وهي توبخه: ألم تشبع لقلقة، تعال ونم، سنخرج باكراً إلى الحقل.

وخالي الذي زار الاتحاد السوفييتي زيارة قصيرة في مهمة ما، واعتنق أفكار زعمائه دون أن يفهم حرفاً مما يقول…

نعم كانوا شلة فاشلين وكنت طائراً يغرد خارج السرب.

أرادت أسرتي أن تخطب لي بمجرد أن حصلت على الشهادة  الثانوية لتبعد من رأسي فكرة السفر وتربطني بالقرية، لكن ما كنت لأوافق لاسيما وقد اختاروا لي عروساً قصيرة القامة، هل كانوا يظنوني بحاجة علّاقة مفاتيح أضعها على خصري، ربما لو كانت طويلة جميلة كما أشتهي لضعفت قليلاً، لكن ابنة خالتي لم تكن خياراً جيداً، والغريب أن والدي وعمي باركا قراري وإن كنت غير مكترث بذلك.

عندما وصلت باب الدار الخارجي حاولت الالتفات ورائي لأحاول استرضاء والدتي قبل السفر، لكن رأسي كان كبيراً كما قلت فصعب الأمر علي ومضيت وفي قلبي غصة لم يزلها إلا صوتها وقد رمتني بفردة حذائها وهي تصرخ: وهل أدرت لنا يوماً إلا مؤخرتك يا ابن ال…؟

واختنق صوتها بالبكاء، فأعدت لها فردة الحذاء مقبلاً رأسها  دون أن أتمكن من لفظ حرف واحد، فضمتني وقالت:  انتبه لنفسك يا ولدي، الأرض المنخفضة تأخذ مياهها ومياه غيرها، وفقك الله.

مضيت وأنا مصمم ألا أعود لتلك القرية الجبلية الفقيرة، بل كنت أقسم أني سأقبر الفقر وأحضر أهلي ليعيشوا معي في المدينة.

كنت أكره تفاصيل حياتي كلها، وأشعر أن وجودي هناك كان خطأ بالفعل.

سحرتني المدينة منذ اللحظة الأولى لوصولي، إنها تفوق كل جمال تحدث عنه أحد… آه ما ألذ رائحة الدخان!

كان قلبي يهتف: حرية…

وانتهت الحرية على باب شقة خالي، بعدما لاقتني زوجة خالي بامتعاض، أخذت مني الأغراض التي أرسلتها أمي باشمئزاز، ابنة المدينة التي لا يعجبها شيء، كانت تدير فمها باعوجاج كلما لفظتُ كلمةً قرويةً، أو تصرفت أثناء تناول الطعام بطريقة بدائية كما قالت.

ولم يكن خالي يخالفها الرأي فهو أيضاً استقبلني على مضض، ثم أخبرني أنه  ليس بإمكانه استضافتي لوقت طويل فمنزله صغير ولديه شابتان… لذا سيؤمن لي عملاً في المرفأ مبدئياً ثم سيجد غرفة للإيجار تكون قريبة من مكان عملي.

تجاهلت وقاحة زوجة خالي وابنتيها القصيرتين لتتعزز لدي فكرة أن كل قصير في الأرض فتنة، وقضيت ليلي ساهراً أحلم بوظيفتي ومكتبي، لقد خلقت بالفعل لهذه الحياة، سأكون موظفاً ولن أعمل كبقية إخوتي فلاحاً، سأدخر مالاً وأؤسس لعمل خاص، ربما أكمل تعليمي أثناء عملي، سأتزوج شابة طويلة مثقفة، لن أنجب سوى ولدين فقط، يا الله ما أجمل الحياة التي تنتظرني!

وجاء الصباح وانطلقت مع خالي مرتدياً بنطال العيد وقميصاً معطراً وسرحت شعري لأبدو لائقاً بوظيفتي.

سحرتني اللاذقية بشوارعها وناسها وبحرها الذي وقفت طويلاً أحادثه بينما يعود خالي بالخبر الطيب من أحد معارفه.

خرج رجل ضخم من أحد المستودعات بملابس متسخة أشار إلي أن آتي إليه, فذهبت ووجدت خالي يجلس مع رجل آخر قرب مكتب صغير عليه سجلات ما، نهض خالي وقدمني: هذا ابن أختي حسن، إنه شاب خلوق وطيب وبنيته قوية فقد تربى في الريف، سيعتاد العمل سريعاً وبإمكانه البدء من اليوم.

عندما عدتُ مساء ً إلى المنزل، كادت زوجة خالي تفقد أعصابها وقد صدمها منظري بعدما اتسخت من رأسي إلى قدمي وأنا أعمل طوال اليوم في حمل أكياس الحبوب على ظهري الذي تقوس فبدوت كعجوز سبعيني.

كان الماء ينسكب على رأسي فيزيل مع الأوساخ  بقايا  الأفكار الجميلة التي راودتني صباحاً، ويفسح مكانها لأخرى سوداوية خانقة.

أنا ذو الرأس الكبير أعمل عتالاً في المرفأ، لم أنحن لإنسان يوماً، لكن أحنتني الأكياس…

ماذا أفعل الآن، هل أعود أدراجي لأغدو مسخرة القرية، أم أبقى هنا وأهرم قبل وقتي؟!

ودخلت في دوامة أتخبط فيها وقد أعمى عيني سواد المجهول الذي ينتظره…

آه، أمي أين فردة حذائك تعيدني إلى الخلف؟

هل هذا ما تركتك لأجله وأغضبتك، يبدو أني الفاشل الأكبر في هذه العائلة.

ستسخر مني كل القصيرات اللواتي نبذتهن، لا يمكنني العودة لما أدرت له ظهري.

كان خالي بانتظاري على مائدة العشاء وأخبرني أنه وجد لي غرفة بإيجار مقبول قريبة من المرفأ، حاول أن يشجعني على الاستمرار في العمل لأن لا أحد يعلم ما الفرصة التي قد تأتيني، فربما يتاح لي السفر يوماً ما لبلد آخر.

أويت إلى فراشي وقد هدني التعب وأردت الاستسلام للنوم لكن لاحت في مخيلتي صورة باخرة تحملني فوق عالمي كله..

كانت الفكرة طيبة، السفر عبر بحار العالم، لكن ماذا سأعمل؟ لست مهندساً أو فنياً أو خبيراً بأي شيء؟

سأظل عاملاً يفلحون عليه كالثور، أنا الذي كرهت الفلاحة طوال عمري.

ولنفترض أنني وصلت بلداّ آخر، هل سيحتويني أم سيرفضني كما فعلت المدينة بي؟ هل سأعمل في تنظيف البيوت أم الحمامات العامة؟ ربما في أفضل الأحوال سأعمل  بستانياً عند ثري ما، لا يمكن أن أسافر دون أن أكون مستعداً ومتسلحاً بشيء، ولن أعود لقريتي، إذاً سأبقى هنا، سأعمل وأتعلم مهنة ما أو أدرس في معهد فني حتى أتمكن من إيجاد فرصة عمل جيدة…

مضيت ثانية إلى المرفأ، وعادت اللاذقية لتأسرني  في ساعات الصباح الأولى، واسترديت شيئاً من تفاؤلي وقويت عزيمتي ثم انهارت بعد وقت قصير وأنا أتلقى الأوامر والتعليمات من رب العمل الذي ظل ينتقد أدائي وبطئي، أردت أن ألقي كيس الحبوب في وجهه وأدير له مؤخرتي العظيمة، لكن إلى أين أمضي إن فعلت؟

انهارت عزيمتي تماماً وبدأت أتخيل فردة حذاء أمي تنهال علي من كل صوب، وكنت سعيداً جداً بشعور الأمان الذي منحتني إياه تلك الذكرى الغالية وغفوت ذاك المساء دون عناء فهذه ليلتي الثالثة في المدينة وآن لي أن أرتاح قليلاً.

صحوت صباحاً على صراخ خالي: لاحول ولا قوة إلا بالله… لا حول ولا قوة إلا بالله … إن لله وإنا إليه لراجعون.

وقفت كطفل مذهول في الثالثة من عمره أمام خالي الذي بدا ضخماً جداً وأنا أخشى معرفة هوية المتوفى، لكنه لم يعطني الكثير من الوقت قبل أن يلقي فردة حذائها الأخيرة في وجهي، يا ولدي جهز نفسك بسرعة لتلحق بجنازة أمك.

نعم لقد أعادتني أمي… شعرت بي وبضياعي فأبت إلا أن تنقذني، ووقفت عاجزاً عن التفوه بكلمة واحدة أمام وجهها الذي لم يعلو يوماً فوق بطنها وطبق العجين إلا باتجاه السماء.

ألقيت نظرة الوداع، وجلست إلى جوار أبي  أومئ موافقاً  وأنا أصغي إليه يرجوني لأحقق أمنية والدتي الأخيرة بالعودة إلى أرضي والزواج من ابنة خالتي القصيرة.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار