الوحدة: 10-1-2021
والنهار يلفظ أنفاسه الأخيرة فيما يهم الليل بلف ما تبقى من ضياء بعباءة سواده، جثى على ركبتيه مفترشاً حصى النهر وقد وصل أخيراً محجه.
بخشوع الزاهدين حاول أن يروي ظمأ روحه وعينيه من فرط جمال وعذوبة الفرات ولعل ما زاد حماسه توافد كثيرات من يحملن على أكفهن أرواحاً متعبة وآمالاً عريضة.
أخرج لفافة تبغه وأشعلها ثم أوقد شمعة قنديله المثبت على قاعدة خشبية وأودعه سطح اليم العذب وهو يرتل بقدسية وروحه تكاد تفر من بين أضلاعه… يا الله حقق رجائي…
والنهر يسوس قنديل أحلامه رويداً رويداً فيما تتعلق روحه وعيناه بضوء شمعته لعلها تقاوم نسيمات المساء وهي ترحل شرقاً وتكبر المنى بعودة من اشتد بياض العين وهي تذرف دموع فراقه…
زوارق الصيادين، مئات الشموع المحملة بتوسلات أمهات وعاشقات ومفارقات اتخذن من النهر سبيلاً ومئات العيون يتزاحم فيها الزجاج المكسر ترقبها وتتوجس خيفة أن تختنق روحاتها قبل أن تغيب في غياهب سوادي الليل ومياه النهر…
سنوات خلت وهو يمارس تلك الطقوس بذات اليوم من السنة الذي تغرق فيه روحه بمحيطات أحزان مختلفاً عن باقي سكان الأرض الذين يتفننون بألوان الاحتفالات به.
لملم أشلاء فؤاده وهدس عائداً بخضم سواد الليل وآلاف النايات الحزينة تعزف على أوتار روحه، لم يفكر بالجهات الأربع فبوصلة العاشقين لا تشير إلا حيث يكون الحبيب.
بآلية قادته قدماه لملاعب صباه وأطل عليه من بعيد منزل من ملكت فؤاده ولم تزل… انتشت روحه لكن عقله سخر منه: (أمر على الأبواب من غير حاجة، لعلي أراكم أو أرى من يراكم…).
وهو يدنو أكثر من ذلك البيت الذي بقي يأسره سنين طوال زادت نبضات خاففه وأربكت خطاه… بخوف وحبور لامس ذلك الجدار ولا يدري هل كان كفه أو قلبه من شعر بحنين حجارته، وهو لا يزال يصارع وجده بين سكرات عشق وأنين انتبه أن البيت الذي هجره أهله منذ سنين تشع أنواره من جديد…
هل أحلم … فرك عينيه… لا من المؤكد أن أحداً ما آب للبيت بعد طول سفر، ألف شك ويقين بات يراوده وما أن وقعت عيناه على مدخل الدار حتى تملكه الذهول فقد فتحت البوابة مع لحظة مروره أمامها…
عذب حنون عاوده صوت حفظته خلايا دماغه وأذنيه: ألم تتوب عن هوانا وحلفت أيمانا معظمة أن لا تطأ شارعنا ؟
في كل مرة كنت أحاول وكنت أفشل انت تسكنين في فلبي فكيف أهرب منك…
– لم تزل ترتل ذات زقزقات عشق ساحرة لم تنل منك السنين.
– لم ينل مني سواك وبعادك …
– تلك أقدارنا… فهوّن عليك، كنت ابتهل إلى الله أن أراك أو احصل على رقم هاتفك الجوال بهذا اليوم تحديداً لأقول لك كل عام وأنت بخير يا… وغصت بحروفها… يا عمري…
– رد بشغف وتفيض روحه صبابة: ( كل عام وأنت حبيبتي) هكذا كنت ولم أزل وسأبقى أقولها لك أنت فقط.
وبدأ يكبر تكبيرات العيد وهي تضحك فرحة بلقياه وتدمع عيناها أسى لحاله…
اذهب… وطب نفساً وأرح قلبك قليلاً من أجلي… غداً أجمل لأننا سنلتقي.
بصوفية ويقين ووجد يملأ خلايا قلبه غذ الخطى وهو يتمتم لك الحمد يا الله … إذا شمعتي لم تنطفأ وها قد آب الحبيب الذي أهواه من سفر، وغاب مجدداً في حلك ليلة باردة وهو يدندن… الليلة عيد…
محمود القاسم