خمسون عاماً

الوحدة 5-1-2021  

 

خمسون عاماً وصورة فتاة قريتي معلّقةٌ على جدار الذّاكرة، وتقيم لقلبي إيقاعاً كوقع الطّلّ في الصّباحات الربيعيّة.

أمّا عن حالها وأحوالها: فقط تطلّقت مرّةً، وترمّلت أخرى، وفي الثّالثة أدار آخر أزواجها ظهره واختفى كما يختفي الملح ويذوب!.

على النّقيض منّي، فوالدتي تهنّئ  نفسها بسلسلة تجارب محبوبتي الفاشلة، وتعتبرها عقاباً عادلاً. لا للسبب الذي سآتي على ذكره ، وإنّما لزهوِّ تلك الفتاة المتعالي، والّذي يفوق جميلات المدينة، فتسرد والدتي فصولها المأساويّة من طلاقٍ وترمّلٍ وهجرٍ، كلّما سنحت الفرصة، مع بعض الإضافات والتّفاصيل الجديدة، ممّا يدفعني على الحرص المستمرّ للقائي الوحيد الذي جمعني بها وقد قلتُ فيه: أحبّكِ لا لبستان الورود في وجهك، ولا لرشاقة الأمواج فيكِ، بل لقدرتي على التّحليق بعينيكِ الزّرقاوتين، كما الطّائر الّذي كره عُشّهُ.

أحبّك لأننّي لا أراكِ مثل غيري

حينها ابتسمت جميلتي وقالت: أنت كالظّل الّذي لا يفارق الأشجار. أمّا أنا فذلك السّطوع وهو يحرق الظّلال.

تمضي السّنون وابتسامتها تتدفّق  كالماء من نقاء الصّخر، إلى أن التقيتها قبل أيّامٍ في عيادة طبيبٍ، وكانت بفعل تقدم العمر غابة زرقاء من الشّرايين والعروق البارزة، وبعينين سيّجتهما نظّارة ٌ سميكةٌ هي أقرب إلى الغشاوة!

قالت بانطفاء: الجميع رحل، فمنهم إلى العالم الآخر، ومنهم إلى أطراف هذه الدّنيا المترامية، ثمّ أضافت: لم أكتشف إلاّ وأنا ظلٌّ من كلّ الأوفياء، فأشعر بالشّمس تفتّش عن ظلّها.

وهنا تألمت لفراق والدتي، بعد أن صارت كنزاً مدفوناً في التّراب، فهي لن تسمع ما كانت تتمنّى سماعه. انتهى اللّقاء على أمل انتظام أنفاسنا وخطواتنا، وبعضاً من سعة الصّدر على تجرُّع الدّواء ليس إلّا.

سمير عوض

تصفح المزيد..
آخر الأخبار