عزلة الأديب… بين الإيجابية والسلبية

الوحدة 5-1-2021  

 

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر أنه وحيد, والذي يبحث عن الآخر, العزلة هي العمق النهائي للشرط الإنساني, هي الشيء وضده, نعيم وجحيم في الآن عينه, حالة من الضياع والظروف التي تنهشها شلالات العدم تتلبس المرء حيناً والرغبة في الانعتاق من كل عبء حيث يغدو الإنسان خفيفاً لا يثقله ولو مجرد حلم ولا يحكمه أي أمل.

العزلة مادية ومعنوية, حالة من السكون تتلبس الجسد وخمول فكري يقتحم الذهن بفراغ وجودي يصل إلى مرحلة الانفصام العقلي والروحي واليأس في مختلف تفاصيل الحياة, أوقات تلوك المرء بفظاعة امتدادها إلى ما لا نهاية ولا ينهيها إلا الرحيل الأبدي وما يزيدها مرارة وقساوة أن يكون المرء معلقاً على حبال العزلة وأمامه عشرات الناس المتواجدين أمامه وجوداً مادياً فقط.. الكاتب الروماني إميل سوران الملول الضجر الناقم على الحياة يقول: (لا حاجة بك للموت على الصليب, فقد ولدت مصلوباً).

العزلة مناسبة صحيحة للحديث مع النفس ومراجعة أمور الحياة, طاقة خفية تدفعنا لاستمرار مغمس بانتظار ما لا يأتي, حيث يوجد في الإنسان منجم داخلي لا ينضب من خلق تفانين عيش يقتنصها من قلب العدم, ومهما انعدمت سبل العيش هناك إمكانية دائمة لرؤية بصيص القدرة على الاستمرار.. الكاتبة لو أندريا سالومي تنصح: (لن تمنحك الحياة أي هدية, صدقني.. إذا أردت أن يكون لك حياة.. اسرقها).

الأعزل هو الذي يفرق في ذاته وينشغل في اهتمامه لدرجة أنه ينسى الآخر, والأديب المعتزل في صومعته يصرّعلى تشييد جدار من العزلة حوله ويغلف نفسه بالبرودة والصقيع مثل الأعمى المحبوس في قفصه الجسدي وأدوات إبداعه معطلة مسجون في قفص عماه وكأنه يتكلم من داخل صندوق, ينظر إلى الأمور بمنظاره ذي العين الواحدة والفراغ ينهش ذاكرته ويضيع في متاهات الأفكار التي تغزو رأسه, يجري وراء الأشباح التي تلامس عقله ولا يستطيع أن يلامسها, والحبر جف في قلمه وكأنه عالق بضخامة ذاته في بقعة أصغر من حجم جسده ويبحث عن الاختناق سبيلاً للخروج من عناده الغاشم, والأفكار البائسة التي تملأ رأسه غير قابلة للتنفيذ, يوغل في أوهامه كغريق يوغل في مغارة تحت الماء يلوح في طرفها البعيد سراب نور.

الإنسان بحاجة دائماً إلى ما يشغل شغفه ويحول دون انطفائه ووقوعه في متاهة الفراغ والثغرات, الأدباء الذين ينشدون العزلة والسكينة والانفصال عن الناس وعدم الاختلاط بهم يسعون للوصول إلى حالات ذهنية عميقة, وكما يقول الكاتب بول أوستر (أهم جزء في حياتي هو الذي يجري في صمت ما بين هذه الجدران الأربعة).

أحياناً تتسب العزلة بأمراض اجتماعية وأخلاقية, والإنسان الذي يملك طاقة ولا يوجد مسرب طبيعي لتفريغها أو مجال نافع لتوظيفها يتحول إلى إنسان هدام.. علينا دائماً ابتكار أساليب شتى في استكشاف البسيط النابض بالحرارة في النفس واكتشاف مدى قوتنا الداخلية ومناعتنا الذاتية.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار