من أرض الأبجدية.. تعليم اللغة الأوجاريتية مع د. سراج اسكندر

الوحدة: 28- 12-2020

من هنا من أرض سورية, ومع لغتها مازلنا بنصر وما زالت الأوابد شاهدة على مر العصور بأن أبجديتنا هي صانع الحرف الأول للإنسان, ولحضارة عريقة عمدت سورية بثوب النور والمعرفة… ولأوغاريت حكاية أصل ونسب ولحضارتها عرق ودم .. أبجديتها مازالت تبوح وتبوح ولن تخبو ما زال الدم السوري ينبض على أرضها.. فما زالت أبجدية أوغاريت صامدة تستنهض الشمس كل صباح وتلقي السلام على الأرض..

وفي صباحاتها المشرقة دوماً ومع شغف المعرفة التي لازمتها, ترتسم تلك الأبجدية على مسميات ودروب وحياة.. ومازالت الروح تنطق لسان حالها على ناحية أو جدار أو حكاية…

اللغة الأوجاريتية هي أبجدية متكاملة كانت السباقة لتسطير حروفها ولحنها دوماً على إعلاء الفكر والعقل والاستنارة.. قادت خطواتها إلى وجود لن يُمحى على مر التاريخ..

ولأهمية هذه الأبجدية وقيمتها ما زالت تنطق على لسان مريديها وأساتذتها وجدران آثارها, د. سراج اسكندر يقوم بتدريس هذه اللغة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في قسمي التاريخ واللغة العربية بجامعة تشرين وهو متخصص في اللغات القديمة لغات الوطن العربي القديم كما أنه يقوم بتدريسها في بعض الملتقيات الثقافية الهامة في مدينة اللاذقية كملتقى القنديل الثقافي حيث التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار:

– متى اكتشفت اللغة الأوجاريتية؟ وعلى يد من؟ وبأي تاريخ؟

كان اسم أوغاريت أو مملكة أو جاريت معروفاً في المصادر القديمة المصرية والأكادية والكنعانية لكن موقعها كان مجهولاً إلى أن ارتطم يوماً محراث فلاح سوري من بلدة رأس شمرا ببلاطة قبر ضرب يوصل إلى مقبرة وما إن علمت دائرة الآثار الفرنسية بالأمر حتى أعلنتها بقعة أثرية وباشرت فوراً بأعمال التنقيب في بداية عام 1929 وباستمرار الحفريات كشفت قبور وأوانٍ فخارية وتماثيل صغيرة وخلي عظام حيوانية, ثم ألواح عليها كتابات مسمارية هي نصوص رأس شمرا المكتوبة بلغات عدة ومن تلك اللغات (اللغة الأوجاريتية) التي تمكن الباحثون من فك رموزها الكتابية في عام 1930م.

– يقال بأن اللغة الأوجاريتية جاءت كثورة على اللغة الهيروغليفية التي تميزت بكثرة رموزها وأسمائها وحروفها, والمسمارية المقطعية التي كانت تشكل مقاطع صوتية كاليابانية والصينية حالياً, فكانت اللغة الأوجاريتية أبجدية مستقلة وفي متناول الجميع وليست للطبقة الحاكمة السياسية أو الدينية, ما هو تقييمك لهذا والتقييم العام العالمي أيضاً؟

بالتأكيد كانت أبجدية أوغاريت التي تحتوي على 30 رمزاً أو حرفاً كتابياً ثورة على الكتابات التي سبقتها كالكتابة التصويرية التي اعتمدها السومريون في بلاد الرافدين في كتابة وثائقهم.

والمصريون القدماء التي كانت بالنسبة لهم أساساً لكتابه لغتهم المصرية القديمة بخطهم المعروف بالهيروغليفية وكانت أيضاً تطوراً عظيماً على الكتابة المسمارية المقطعية التي تعتمد على عدد من المقاطع بعلاماتها يصل إلى ثمانية آلاف تقريباً التي كتب بها الأكاديون نصوصهم, فالكتابة الأوجاريتية المسمارية الألفبائية (الهجائية) اختزلت هذه الرموز والعلامات إلى 30 رمزاً فقط, فهذا ما سهل عملية الكتابة في جميع مجالات الحياة (السياسية, الاقتصادية, الدينية, والتعليمية …)

– ما هي علاقة اللغة الأوجاريتية مع اللغات السائدة وقتها, كالكنعانية والعبرية واليونانية واللاتينية, وما مدى الارتباطات والاختلافات بينها؟

تعد اللغة الأوجاريتية فرعاً من فروع اللغات الجذرية (اللغات السامية) التي تشمل عدد من اللغات (كالعربية والعبرية والفينيقية والآرامية والأكادية..) وعليه هنالك من الألفاظ عدد لا بأس مشترك بين اللغة الأوجاريتية وبقية اللغات الجزرية الأخرى, كالألفاظ الدالة على أفراد العائلة, وأعضاء الجسم, وأسماء بعض الحيوانات وغيرها من الألفاظ, فمثلاً كلمة (أب) في الأوجاريتية تقابل في العربية (أب) وفي العبرية والفينيقية والآرامية (أب) وفي الأكادية (أبو).

– التجاذب في الأسبقية بين أبجدية أوغاريت وأبجدية جبيل, ما هي حقيقته وإثبات الدقة التاريخية فيه؟

إن الأبجدية الأوجاريتية المسمارية قدمت للحضارة الإنسانية إنجازاً عظيماً وهو اختزال عدد العلاقات المسمارية المقطعية التي تقدر بالآلاف إلى 30 رمزاً أو حرفاً فقط, وعليه كان لها السبق الحضاري في موضوع اختزال العلامات الصوتية, ثم جاءت الأبجدية الفينيقية التي عملت على تطوير الكتابة, فالفينيقيون كانوا تجاراً يحبون البحار- فلا الكتابة التصويرية التي تعتمد على دقة الرسم والصبر من قبل الكاتب ولا الكتابة المسمارية التي بحاجة إلى معجنة من الطين وتجفيف هذا الطين بواسطة الأفران بعد الانتهاء من عملية الكتابة – كانت تنفعهم, لأنه كان يستميل أداؤها في السفن وعليه أدت هذه الظروف إلى اختراع الحرف الأبجدي في جبيل, ومنها انتقلت الأبجدية إلى أوروبا وغرب آسيا وجزء من أفريقية, وأصبحت أيسر الطرق للكتابة بصرياً بالحبر على الورق.

– هل صحيح بأن اللغة العربية بأبجديتها تتشابه مع الأبجدية الأوجاريتية, وتزيد عنها بحرف الضاد, وتنقص عنها بحرف سين ثانية؟

الأبجدية الأوجاريتية هي أبجدية صوتية ألف بائية (هجائية) وكذلك بالنسبة لحروف الهجاء العربية ولكن عدد حروف الأبجدية الأوجاريتية 30 حرفاً, تشمل جميع حروف الأبجدية العربية باستثناء حرف الضاد الخاص باللغة العربية, وما يميز الأبجدية الأوجاريتية عن غيرها وجود ثلاثة أشكال للهمزة (الهمزة المفتوحة والهمزة المضمومة والهمزة المكسورة) هذا بالإضافة إلى وجود شكلين كتابين لصوت السين فالشكل الأول يشبه صوت السين العربية في نطقه, أما الشكل الثاني فيطلق عليه اسم السين الجانبية وما يميز الأبجدية الأوجاريتية المسمارية أنها تكتب حروف الكلمات من اليسار إلى اليمين وبحروف منفصلة لا متصلة بعكس العربية.

– هل صحيح بأن هناك تشابه بين اللغة الأوجاريتية واللهجة العامية في اللاذقية بمفردات كثيرة وعديدة؟

بالتأكيد وليس بغريب أن يكون هناك ألفاظاً مشتركة ما بين اللغة الأوجاريتية واللهجة العامية في الساحل السوري لأن اللغة الأوجاريتية نبعت من هذه المنطقة وبقيت الكثير من الألفاظ الأوجاريتية على ألسنة أنباء هذه المنطقة إلى يومنا هذا, فمن هذه الألفاظ مثلاً: (ن ع)، يقابلها في اللهجة المحلية (عين) بمعنى انظر-(ت ب) يقابلها: (بت) بمعنى بنت ابنة- (ن ج د) يقابلها (دجن)- حيث يقول بعض الأجداد في الريف الساحل السوري ما دقت الدجن أي لم أذق خبزاً من قمح, و(الدجن) في الأوجاريتية هو القمح – (ي م) يقابلها (مي) بمعنى ماء – (ن د ع ب) يقابلها: (بعدين) أي يأتي لاحقاً أو ما وراء أو خلف الحدث وتأتي بمعنى تأجيل الأمر إلى زمن لاحق ففي الأوجاريتية تعني وراء أو خلف وهنا لابد أن ننوه أنه من مميزات الكتابة الأوجاريتية إهمال تدوين الأحرف أو الأصوات الصائتة (ما يقابل في العربية الحركات الإعرابية: الفتحة والضمة والكسرة ومع ما يقابل أيضاً حروف العلة: الألف والواو والياء).

اسم البلدات والمدن والقرى وحتى اسم مدينة اللاذقية يعود وينسب إلى المرحلة الأوجاريتية ما مدى صحة ودقة هذا النسب؟

إن لغتنا العربية وحدها لا تكفي لتفسير أسماء المواقع الجغرافية في بلدنا بل لابد من الاعتماد على لهجات أو اللغات الجزرية (السامية) للوصول إلى هدفنا الذي نسعى إليه لا تخرج الأسماء الجغرافية التي تطلق على المواقع والأماكن المختلفة – من أفواه الناس عن عبث. فجميع أسماء المناطق تحمل دلالات ومعاني مرتبطة بحوادث وظواهر مختلفة, كارتفاع أو انخفاض منطقة ما أو قربها من نبع ماء أو بشهرتها بإحدى الزراعات أو الصناعات وقد يرتبط اسم منطقة باسم ملك أو ملكة أو شيخ كان يلعب دوراً مهماً في إحدى المناطق وفي فترة زمنية معينة فسميت باسمه وبما أن المجتمع الإنساني هو الذي يطلق الاسم على ذلك المكان أو ذاك, هذا يعني بأن الأسماء الجغرافية    

ترتبط بلسان البشر وأجناسهم, وما أقصده هنا بأن الاسم الجغرافي قد لا يكون له معنى في اللغة العربية مثلاً ولكن نجد له معنى في اللغة السيريانية أو في اللغة الآرامية, وقد يكون اسماً أعجمياً دخيلاً (يوناني , فارسي, تركي) لا نجد له أثر في اللغات الشقيقة للغة العربية, ويسلط التاريخ والأحداث الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية الضوء على أسباب استخدام اسم ما دون آخر, فالاسم الجغرافي إذاً مرتبط بلغة البشر الذين كانوا يسكنون منطقة جغرافية ما وفي فترة زمنية معينة فقد يتبدل اسمها عبر التاريخ وقد تحافظ على اسمها الأصلي فمثلاً اسم (اللاذقية) هو إغريقي الأصل يعود إلى (لاوديكي) اسم (سلوقس) الأول الذي أنشأ هذه المدينة تكريماً لها، أما قرية (بشلاما) مثلاً (قرية من قرى مدينة اللاذقية تقع إلى الشرق من منطقة القرداحة, اسمها يتألف من مقطعين: بـ مختصر لكلمة (بيت) التي تعني (منزل, بيت, مكان) وهذا الاختصار هو ظاهرة آرامية مرت على الأرجح في البداية بمرحلة شفوية لفظت فيها كلمة بيت بشكل مختصر أي (بي…) بيت كذا مؤخراً بي كذا, ثم قلبت الياء ألفاً وأصبحت تكتب أيضاً بهذا الشكل (با كذا) ثم فيما بعد بـ كذا شلاما: ترد في السيريانية (شلاما) بمعنى: سلام, صحة وفي الأوجاريتية ترد أيضاً (م ل ش) بمعنى سلام, سليم ليصبح معنى الاسم كاملاً (بيت السلام , مكان الأمان) وكذلك قرية (بْشِلّي) قرية من قرى مدينة اللاذقية, هذا الاسم مؤلف من قسمين أيضاً بـ و: الذي يعني بيت في الأوجاريتية وبقية اللغات الشقيقة للغة العربية – شلي: ترد في الأوجاريتية كلمة (و ل ش) بمعنى استراح وعليه يكون معنى اسم هذه القرية مكان الهدوء والسكينة والارتياح وغيرها من أسماء القرى والمدن التي يرجع أصولها إلى اللغات القديمة ومنها اللغة الأوجاريتية والتي ليس بوسعنا أن نذكر جميعها في هذا الحوار.

– ذاك العقل القديم حيث انعدمت وسائل الاتصالات والتكنولوجيا وبنى تلك العظمة من الحضارات والعقل البشري والإنساني, وهذا العقل اليوم الذي يملك أحدث وسائل الحداثة ويبعد عن مقومات الحضارة والبناء الإنساني والروحي, كيف يمكن مقاربة هذين الوجودين في التاريخ؟

لقد بنى الإنسان القديم حضارة عريقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فقد اهتم بقضايا دينية وفلسفية وأخلاقية وتعليمية, وهذا ما بينته وأوضحته الملاحم والأساطير نسجها الإنسان القديم لينقلها إلى غيره من الأجيال المتعاقبة والتي عبرت عن فهمه للكون والطبيعة ودلت على مدى تعمقه الروحي في فهم الخالق, وقدمت علماً وحكمة لكل من سمع وفهم سطورها المدونة بأحرف مسمارية, وقد جمع إلى جانب حضارته الإنسانية هذه حضارة مادية بنيت بعرق جبينه فأوجاريت تلك المملكة التي لم تقم بأي عملية عسكرية أو حرب توسعية على أراضي الممالك المجاورة بل كانت على العكس مملكة مسالمة اعتمدت في تقدمها الاقتصادي على الزراعة والصناعة والتجارة, وخير مثال على ذلك النبيذ الأوجاريتي المصنوع من أجود أنواع العنب, كان يصدر إلى الممالك القديمة المجاورة ولا سيما مصر واليونان.

– في حرب حضارية عقلية ثقافية وعلمية الآن هل يمكن لهذا العقل بنى تلك الحضارات أن يستلهم الحلول منها؟ وهل حقاً يريد الحلول منها أو من مبررات الحل والسلام؟

بما أن العقل الإنساني منفتح على بقية الثقافات الماضية منها والباقية, لابد أن ينهل منها حكمة التسامح والسلام فالرقي الفكري الروحي والتقدم الحضاري لم يكن حكراً على أحد عبر التاريخ بل كان ينهل منه الجميع فهو خير لا ينضب.

ملاحظة هامة جداً: بعض الباحثين يكتبون اسم أوجاريت بالغين لا بالجيم (أوغاريت) وهو خطأ شائع فيجب كتابة اسم الدولة: أوجاريت, واللغة: اللغة الأوجاريتية بالجيم لا بالغين لأن الحرف هو (ج) وهو يختلف عن نطق صوت حرف (غ) وذلك في الأبجديتين العربية والأجاريتية كليهما، لأن اسم أوجاريت المدون في النصوص المكتشفة ورد بالخط المسماري الأوجاريتي بحرف الجيم (ت, ج, أ) وبالخط المسماري الأكدي في أكثر من رقم بحرف الجيم (ri –uit-ga- ) فاسم المدينة (أوجاريت) أو (أجرت) مكون من أربعة رموز كتابية أوجاريتية هي الهمزة المضمومة والجيم (كالجيم القاهرية نطقاً) والراء والتاء.

سلمى حلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار