الوحدة 10-12-2020
لم تسنح له فرصة التعلُّم, فكبر وشبّ على مهنةٍ, اشتدّ الطلب على من يعمل بها لظروف طرأت مؤخراً, فكان يصدق حيناً ويماطل أحياناً. لكنه كان يسأل أصحاب الحاجة له عن تحصيلهم العلمي, فينتقي المدرس منهم بأجرةٍ أقل, وباهتمامٍ أكبر, وكان يكرر عبارته الشّهيرة: (العلم في الكبر كمن حفر وطمر).
وعلى الرغم من أموره الميسورة, فلا ينفكُّ يتضاءل أمام المدرّس خجلاً وتواضعاً!
ومثل غيري, احتجتُ لخدماته فباشر على الفور, دون أيّ اتفاقٍ على الأتعاب, وكان يصرُّ على أنني سأكون راضياً جداً, فيكفي كوني مدرّساً, ممّا دفعني لإجراء مقارنةٍ علنيّةٍ بيني وبينه عن أحوال معيشته ومعيشتي, معتبراً حرمانه من التعليم مكافأة على حياته الرّغيدة, فعمل يومٍ يقوم به: يعادل نصف أجري الشهري الذي يمنُّ فيه عليّ معتمد راتبي, وبعد تقديمي (برتوكول) من الابتسامات والعبارات اللطيفة, وكأنني في حضرة هالةٍ لا مثيل لها إلا عند معتمدٍ آخر!
لم يتم إصلاح الأعطال عندي, لتهالكها واهترائها, فكان لا بدّ من إزالةٍ شبه كاملةٍ لمعظم أشياء البيت, فتأثرت إلى درجةٍ جعلتني أرى من دون ألوانٍ, وأسمع أصواتاً من غير كلماتٍ!!
وكغيمةٍ تعتذر عن إنزال المطر, جمع أغراضه ومضى, ليفاجئني في اليوم التالي مصطحباً معه ورشةً متعددة الأغراض, وهو يخاطب من معه: أستاذي في محنةٍ وسنساعده.
بعد الانتهاء من العمل, كانت علامات الرّضا على وجهه كبطلٍ لروايةٍ شعبيّةٍ سعيدةٍ.
ما زال حتى اليوم بطل الرواية السعيدة, نهرٌ يقهقه ويضحك بشلالاتٍ هنا وهناك, فيرافقني إحساس العيش ببيتٍ صلبٍ ينافس (البتراء) قدماً ومتانةً, ولا خوف على تصدُّعه طالما أنّ هناك من يحبُّ العلم ويجلّه أكثر من أمثالي, وإذا كانت الخبرة أسوأ أنواع المعرفة, فذلك الفنان العامل, يستحق مرتبة الشرف على شغفه للمعرفة ولأصحابها.
سمير عوض