الوحدة 9-12-2020
مواجهة الذات ليست بالأمر السهل لمن اعتاد قراءة الآخرين والهروب من قراءة ذاته, السيرة الذاتية فعل انقسام الذات, لم يعرف لها تعريف جامع وخاصة عندما توظف روائياً, وهي تخضع لظروف وعوامل شخصية واجتماعية وسياسية, ولم تظفر بدراسة متكاملة في الأدبين العربي والغربي, البطل فيها هو الكاتب في حله وترحاله واليوميات التي قضاها في الأماكن التي زارها وأقام فيها, يوميات مؤرخة بدقة سردية شائعة وكأنك تعيشها- ترافقها– ترى كل تفصيل, وتسمع وقع النقاش وهو يبوح بأسرار الشخص والحياة.
السيرة الذاتية فن جميل يخرج الكنوز التي بقيت حبيسة الأدراج إلى النور والعلن, شاهد على الأحداث وناقل أمين لها, تضعنا في أجواء زمن مضى وطبائع أناس لعبوا دورهم في الحياة ثم غابوا في طوايا الزمن, ومزاجهم وأهوائهم, يصف ويصور الواقع الإنساني بدقة متناهية وسرد ما يدور في صدره من مشاعر وما يهجع به من أهواء ورغبات في كتاب يروي حياة المؤلف نفسها, وتختلف مادة ونهجاً عن المذكرات واليوميات والدراسات والترجمات الشخصية مع وجود بعض التداخل.
السيرة الذاتية موضوع معقد وشائك جداً ومفتوح على جميع المطبات والاحتمالات, لم يتحدد حتى يومنا هذا عند النقاد والباحثين, والكثير من الكتاب والباحثين والسياسيين نأوا بأنفسهم عن الخوض فيه, وهو مصطلح مراوغ لا يمكن رصده إلا ضمن مقاصد معينة أهمها البؤرة الذاتية, أي أن ينطلق السرد من الذات, وحتى لو تحققت جميع شروط السيرة الذاتية وتم فيها سرد الأحداث بطريقة عشوائية لا يربط خيط من التسلسل الزمني والغني بينها فإنه لا يمكن عده سيرة ذاتية, وهو أكثر قدرة على التواصل والوصف ونقل العوالم والأحداث ولذة التلصص وكشف الكهوف والأسرار واستعادة الماضي بأسلوب فني يتوافق مع طبيعة الشخص بسرد منطقي حقيقي كان يعيشه الفرد, حيث يتآلف ظاهر الفرد مع باطنه بتناغم متكامل ليشكل السيرة الذاتية.
النظرية الأدبية تبيح التداخل بين الأجناس الإبداعية, والعلاقة بين السيرة الذاتية والرواية أكثر التباساً, وكثيراً ما ينظر إلى بعض الروايات على أنها سيرة ذاتية ويصعب الفصل بينهما كون الحدود الفاصلة بينهما ليست مطلقة ونهائية, وتوظيف السيرة الذاتية بكاملها لتكون رواية أمر مستحيل لأن السيرة الذاتية موضوع صغير يمكن أن تزخر به الرواية, لكنه موضوع له حدوده وشروطه ومقوماته ولا يمكن أن تكون سيرة ذاتية, ويرى الكثيرون أن الرواية أكثر صدقية من السيرة الذاتية, والسيرة الذاتية للروائي تتسرب إلى أعماله الأدبية بإرادته ورغماً عنه كون الروائي يكتب عن تجاربه وحياته الشخصية, ونحن في النهاية مجموعة من الناس حيواتنا متشابهة والقارئ يندمج مع العمل إذا شعر بتشابه بين حياته وما يقرؤونه لكاتب معين.. يقول ميلان كونديرا: (إننا نعيد كتابة سيرتنا بلا توقف, ونمنح دلالات جديدة للأشياء).
نعمان إبراهيم حميشة