الوحدة : 3-12-2020
الكتابة مهنة معانقة الكلمات والمواظبة على امتشاق القلم واصطياد الأفكار الأدبية والفلسفية وغيرها، واقتحام الحياة بمختلف تشعبات دروبها والانصهار بتراب تفاصيلها كأنما أصبح لدينا أكثر من عين وأكثر اتساعاً وإبصاراً من جميع من هم حولنا، حيث تندغم حياة الكاتب في صلب مهنته وتصبح كتاباته مشغولة وفق إيقاع تفاصيله اليومية منزاحة إلى الانصهار في ضميره اليومي، وعجينة كلماته متخمة بطزاجة العيش وأدق انشغالاته، وحين يحقق معادلة التوازن يصبح مطواعاً لاكتشاف نبع الأفكار والتحول إلى صائد لها وامتلاك موهبة اختلاقها من كل ما تقع عينه عليه.
صيد الأفكار وسيلة امتلاك رادار يلتقط موجات التفاعلات جميعها تتخمر على هيئة كل ما نخطه ويتخلق بأبهى الكتابات القادرة على جعل المتلقين أكثر شغفاً بالحياة، ويمنحنا شائكة، وسفر في الذات وفي الآخرين وفي مسارات الحياة ومنعطفات الأحلام وأسئلة النزوات الملحة يخرج فيها الكاتب من العالم الذي يفعل به ما يشاء إلى العالم الذي يفعل هو فيه ما يشاء، هواية تجعل الإنسان وحيداً لكنها بنفس الوقت تعيد إليه بريق الحياة وألق لحظاتها.. وكما يقول هنري ميللر: (ما جدوى الكتابة إذا لم ترجعنا إلى الحياة، إذا لم تجعلنا نعبّ من مائها بلهفة أشد..؟!!).
ليس هناك لحظات محددة للتيقظ واصطياد الأفكار وابتكار أفكار غير مطروقة وغير مدركة في الأصل، والأفكار التي تراود الإنسان في النهار يطلق عليها هذيانات الصحو أو أحلام اليقظة، الكتابة عالم مستمر يستولي على الكاتب في اليقظة والمنام ولا يسمح للوعي بالتشويش على تلك اللحظات النادرة، أشياء تحدث في لمح البصر مثل طائر بعيد يعبر السماء ثم يختفي، تدفقات أفكار وتموجات من شطط فكر لا يستقر على حال.. كان نيتشه يبتعد عن الكتابة حين يكون الجو صحواً ويدير ظهره للورقة البيضاء لصالح الاستمتاع بيوم مشمس، وكأنه متفق مع أفكاره الفلسفية على أن لا تقترب منه، وهو لا يقترب منها حين ينعم بالقدرة على عيش الحياة بكل تفاصيلها الملونة.
الواقع منجم للأفكار لا يشيخ، والتلصص على تفاصيل الحياة الملونة بإيجابياتها وسلبياتها مصدر يغني مخيلة الكاتب وما أن يبدأ بصيد فكرة حتى يجد نفسه أمام أخرى مغروسة في تربة الواقع لم يكن يتوقع أن يصل إليها، والنباهة والحذاقة المهنية تشحذ وتصوب أدواته نحو ما يغذيها وخلق مادتها الأولى وهي الفكرة، ويصبح مستثمراً كونه يبقى في حالة تنصت وترصد اللقاء مع الأشياء وليس من الأشخاص، اللقاء مع الأفكار لإغنائها أو تفجيرها لتخرج من مكامنها وأوكارها.
للكتابة الإبداعية واقتناص الأفكار القابعة في زاوية معتمة لجعلها وسيلة لوصف الحياة صعوباتها ومؤرقاتها، وكانوا يربطونها قديماً بالوحي الهابط من سماء الإلهام حيث تصبح حياة الكاتب مسخرة ومرهونة لصيد الأفكار والدخول في متاهاتها وتشعباتها، وكما يقال: الهدف ليس ذرة الرمل التي تدخل المحارة، بل العملية الحيوية لإنتاج اللؤلؤة.
نعمان إبراهيم حميشة