آذارُنـــا ربيـــعُ مــيلاد.. وخاتـــمُ زنــــَاد!

العدد: 9304

4-3-2019

 

في زمنِ الإنسانِ والوجدانِ، في زمنِ الأخلاقِ الرفيعةِ الفاضلةِ، كان ربيعاً مشبعاً بالاحترامِ والوقارِ، ولئِن تزَامنَ يوم ميلادِي مع عيد المُعلّم، فذكْرِيَاتِي مع طلَبَتِي في ثَانويّة الحَارَةِ آنذاك تفوق كلَّ تصوُّر يرافقه ابتسامٌ ودمعٌ تارةً وحنينٌ لمَّا يزَلْ لماضٍ نأمل ونطمح أنْ يعودَ بعفويّتِه وشَفافيّتِه بأحسنِ ما كانَ عليه من تقديرٍ وتبجيلٍ..
نظرتُ من نَافذةِ بيتِي المطلّ على ثَانويّة الشّهيد مُعين إبراهِيم (الحَارَة)، فرأيتُ طلابَنا يتوافدُون وهُمْ في مُطْلقِ همَّتِهم ونشَاطِهم، فالجميع تملكهم الغبطة والسرور، إنّه عيد المُعلم، وهو اليوم الاستثنَائِي الوحيد الذي يتسَنّى لهم ليبادلوا أساتذتهم العرفانَ بالتبرِيكات والمعايدَات، وكلٌّ على طريقتِه وحسبَ إمكانيّته!
تابعتُ النّظر وشعرتُ بحسرةٍ وحزنٍ عميقٍ، فقد صادفَ هذا اليوم بالذّات أنْ تكون عطلَتِي الأسبوعيّة، فلا يمكنني الذّهاب والاحتفاء مع طلّابي الذين أحبَبْتُهم وأحبّونِي. . طلّابي الذين أعطيتُهم مع العلم والمواعظ كلّ إمكانيّاتي التربويّةِ، حتّى خلال أيّام العُطَلِ والفراغِ، فكنتُ حريصةً أشدّ الحرصِ أنْ يستفيدُوا من خبرةِ الواقعِ والحياةِ قبل الدرسِ، البعض مَازالَ حيّاً ويعلم مدَى عطائِي وحرصِي. .
تابعتُ نظرَاتي بعيونٍ دامعة،ٍ ولكنّها متفائلةٌ بمستقبلِ جيلٍ ناضجٍ مليءٍ بالحيويّة، وبروحِ الشّبابِ المفعمةِ بالنّشَاطِ والشّجاعةِ، رافقتْهُمْ عيونِي بنظراتِها حتّى قُرِعَ الجرسُ ودخلوا صفوفَهُمْ.
أغلقتُ النّافذةَ، وجلَستُ مع طفْلَيَّ آنذاك أَحمَد وأَسعَد، وهُمَا يلاطفاننِي ويمسحَان دموعِي. .
لحظاتٌ خاطفةٌ، شاردةٌ، ذهبت فيها مع خيالِي البعيد، أوقظتْنِي منه دقّات خفيفة على زجاجِ النّافذةِ، حيث كانَ أقرب من بابِ البيتِ الريفيّ المتباعدةِ غرفُه وأبوابُه وحيثيّاتُه عن بعضِها!
يا لَها من مفاجأةٍ، يا لَها من سعادةٍ جمعتْ نبضات القلب بين دمعٍ وابتسامٍ، كانت أصواتُهم البريئةُ تتعالى بالمُعَايدة وبأيدِيهم أكياس نايلون تمتدّ من شبَكِ النّافذةِ الحديديّ لتناوَلنِي أيّاهَا. .
وهمستُ لهُمْ وبفرحةٍ لا تُوصَف: أنتُم، لماذا جئْتُم إلى هُنَا وقطعتُم الدّرسَ؟
فقالوا: لا، أبداً، لقد نلنا إذْناً لدقائق وسنعود، الجميع يحتفي بعيدِ المعلّم، ونحنُ اسْتَفْقدنَاك،ِ وكنّا نتمنّى أنْ تكونِي معنَا.
شكرتُهم على نبلِ أخلاقِهم ومحبَّتِهم الصادِقة، وتمنّعْتُ مشدّدةً عن قبولِ الهدَايا.
ولكن كانَ ردّهم بصوتٍ واحدٍ: هي رمز بسيط والجود بما هو موجود. .
وعلمتُ منهُم أنّ مدير المدرسةِ الحازم (الذي هو زوجِي) كانَ قد جمعَ كلّ الهدَايا من الطلابِ أمام المدرّسين والمدرّسات وقسّمهم بالتّساوي عليهم، وأضَافوا بقولِهم: نحنُ أخفينَا مَا معنَا لأنّنا نخصّك بها شخصيّاً!!
وزّعتُ عليهم ما كانَ عندِي من قطعِ السكَاكِر والحَلوَى، ودَعَوْتُ. . وتمنّيتُ لهُمْ مستقبلًا مشرقاً ناجحاً. .
ودَّعُونِي مع كلماتِهم اللطيفَة، ونظراتِي وابتساماتِي ترافقهم حتّى ابتعدوا.
فتحتُ أكياس النّايلون المكتوبة أسماؤهم عليها تباعاً، كيساً بداخلِه علبة محارم (مناديل ورقيّة)، وكيساً بداخلِه (بروش)، وكيساً بداخلِه (مزهريّة بلاستيكيّة صغيرة) صنع يدويّ، وكيساً بداخلِه (بارفان)، وكيساً بداخلِه (بيضٌ بلديٌ)، وكيساً بداخلِه (صابونٌ ملوّن بعطرِ اليَاسمِين)..
وكانَ أكثر ما أثارَ انتباهي وأضحكني، حيث كُتبَ على الكيس الآنف الذّكر والأخير: (كلّ عامٍ وأنتِ بألفِ خيرٍ، بمناسبة ربيع ميلادِكِ وعيد المُعلم، أستاذتي.. لم أجد يَاسمِيناً، فاستبدلته بِابْن عمّه)!!
وهكذا بقيتُ معهم في المدرسة حتّى نَالَ بعضُهم الشّهادة الثّانويّة بجدارة، وكنّا نفرح لنتائجِهم ونجاحِهم، بل ونوزّع عنهم حلوان التهنئة!!
تتالتْ الأيّام ومضتْ أشهر وسنون، وكلّ منهم اختارَ طريقاً لمستقبلِه الواعِد، أصبحوا شباباً وشابّات، وأسيَاد بيوت وعائلات، سيّما وبعضهم اقترن بمن كانَ يجمعهم مقعد الدراسة نفسه، فكانَ تواصلاً في الدرس والمحبّة معاً.
بينَ كلّ فترة وأخرى كانَ يطلّ علينا بعضهم، وأحياناً نلتقي في مناسبات مختلفة شتّى مَا بينَ فَرحٍ وتَرحٍ، فنطمئنّ عليهم!!
في يوم ليسَ كباقي الأيّام، وتحت مهبّ وشراسة الأزمة السوريّة العصيبة، انهالَتْ الاتّصالات، وتعالَتْ الأصوات والتضرُّعات، ولكن.. مَازالَ الأمل وهو يحاول تلطيف أجواء العائلة، كنّا ننتظر جواباً، ولعلَّ عدوَى الأخبَارِ نَقلت إلينا خبراً صاعقاً، صاعقاً سمعنَاه بينَ مؤكّدٍ له أو مشكّكٍ به!!
في ساعةِ غدرٍ وحصارٍ طويلٍ عجيبٍ، في منطقةِ حاجزِ (القدمِ) جنوبِ دمشق، وبين مجموعة من الرّفاق الذين أصابتهم شظايا اللؤمِ والحقدِ وسرقت ما سرقت منهم من أجهزةٍ وعتادٍ ومقتنيات خاصّة وعسكريّة، لم يكتفوا بذلك، بل بتهريش وتمثيل وتخريش أجسادِهم، حتّى خاتم الرّباط العائلي الذي أثمر وخلال سنواته القصيرة (حَبيب) سُوريّة و(شَام) الفتيّة.
ممّا يحزّ في النّفسِ والقلبِ معاً، أنّ تلك اليد التي قدّمت هديّة ميلادِي والمُعلم (صابون بعطرِ اليَاسمِين)، واستبسَلَت فيما بعد دفاعاً عن الكرامة والشّرف و(الاسم السوريّ الكبير)، أن ترَاها وهي مخرشة متآكلة وبطريقة همجيّة ظالمة بدون أيّ رحمةٍ لنيل هذا الرّباط (الخاتم) من أصبع الشّهيد! إنّه (الشّهيد العقيد فداء حبيب علي). . ولعمرِي قد جعلتَ من اسمكَ نصيباً محقّاً لِوطنِكَ. . لقد جعلتَ أيّها البطلُ فِداء، جعلتَ أنتَ ورفاقُك وحتّى في الدّرب الصعب، جعلتُم للزمنِ وآلامِه أطهرَ وأعطرَ صابونٍ يَاسمِينِيٍ نقيٍّ يغسلُ شقاءَ ومعاناةَ أولادِ الحياةِ القادمِين!
في هذه المناسبات، انقلبتْ الموازِين وستمتدّ على مدَى سنين وسنين..
نحنُ من يهديكُم، ونباركُ لكُم،ْ ونعايِدُكُمْ، بل ونرفعُ لكُمْ أسمَى آياتِ الامتنانِ والعرفانِ، لأرواحِكم الطاهرة النقيّة، لأيادِيكم البيضاء، لقلوبِكم الكبيرة، أقدس الصلوَات، وأصدق القلوبِ، وخالص الوفاءِ.. ولقوّاتنا المسلّحة جيشنا البَاسِل في كلّ مكان، لشجاعتِكُمْ وصبرِكُمْ الطويل الشّاق المضنيّ.
نحنُ من يقفُ لَكُمْ إجلالًا وتقديراً، ومَا أقلَّهُ من واجبٍ علينَا لكُمْ، لرسلِ السلامِ والأمانِ.
أبناءَنَا، أخوتَنا جميعاً: (كلّ عيدٍ، بل كلّ يومٍ، وكلّ حياةٍ هنالك فِي جوارِ الله. . وأنتُمْ بألفِ ألفِ خيرٍ)..

د. سـحر أحمد علي

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار