الوحدة: 2- 11- 2020
على مدى عقود فائتة، عودتنا الدولة أن تمارس دوى الأم الرؤوم، وأن تطلع بمهمات كبيرة تشمل أدق تفاصيل الحياة، فرفضت ورفضنا أن نبلغ الفطام، واكتفينا بحليبها رغم ندرته (أحياناً)، لكنه بقي مصدراً للأمان، وبوابة للأمل، فكنا نقف على صراط الحيرة، ونقنع أنفسنا بأن الدولة قادرة دائماً، وستتدخل في الوقت المناسب.
إنها لحظة حقيقية جديدة كما يلوح في الأفق، فوظيفة الأم باتت ثقيلة على مؤسسات الدولة، وأصبح لزاماً علينا أن نُفطم، ونُعمِل الفكر بعيداً عن نموذج حياة عشناه لعشرات السنين.
التوصيات الاقتصادية المشؤومة!
أراقت اللجنة الاقتصادية ماء وجهها، وكسرت كل الخطوط الحمراء عندما أضافت الخبز إلى ضحاياها، فطعنت بذلك آمال المواطنين، وتركتهم يسيحون في بيداء الجهالة.
من هي هذه اللجنة؟، كيف تعمل؟، من أين تستلهم توصياتها؟، وهل هناك من أفهمها بأن وظيفتها قهر المواطن والسطو على أحلامه بحياة كريمة؟، أم أنهم وصلوا إلى مرحلة العجز المطلق، ولم يعد بين أيديهم سوى توصيات الخنق المعيشي؟.
من حكومة (ضيعان تعبك يا بابا)، إلى حكومة (الفقراء) برئاسة السيد خميس، حتى حكومة المهندس عرنوس، كان الأمل يُسفح بين طيات القرارات الارتجالية، فتفنن الجميع في إطلاق رصاصات الرحمة ودق المسامير في نعوشنا، ووضعوا الحراب في أياديهم على شكل قلم أخضر، مقتبسين قول المتنبي: (المجد للسيف ليس المجد للقلم)، فخالفوا موضع الحاجة، وتكاثروا في وجه مواطن مسكين يبحث عن الخلاص بأقل الخسائر.
القضية ليست برفع الدعم..
صدقاً، ليست مشكلتنا برفع الدعم عن المحروقات والخبز وما شابه، ولكنها الهواجس المتجددة التي لا تلقى من يبددها.
لو فرضنا أن الفريق الاقتصادي يفكر في تجيير هذه المليارات الموفرة من رفع الدعم لصالح جيوب المواطنين، فهل يستطيع هؤلاء ضبط تاجر (متفرعن)، أو إقناع مستورد متنفذ بالكسب الحلال؟، وكيف سيكون شكل هذه التجيير أو التوظيف، وكم سيكون حجمه؟، وهل هم قادرون على رفع الأجور والرواتب إلى مستويات تتناسب جزئياً مع الحاجة اليومية للمسحوقين مادياً؟.
عندما نلقى اجابات شافية، ونلمس وقائع واضحة على الأرض، سنصفق لكم، وسنعتذر من مقامكم، وربما نعمل كفارة لتسرعنا في الحكم على قراراتكم.
إن أكثر ما يحيرنا، ويجعلنا نرتاب من أي قرار صادر عن الحكومة هو الغموض وعدم التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور، فرغم كل توجيهات السيد الرئيس للحكومات المتعاقبة بضرورة القرب من المواطن، وممارسة أقصى أنواع الشفافية، بقيت الحكومات تتخذ قرارتها على شكل سرقة في آخر الليل، فلا يعرف أحد منا ماهي الخطوة التالية، وماذا سيحقق القرار الليلي؟، لأن العنوان دائما هو إيصال الدعم لمستحقيه، ووقف الهدر والفساد، وهذا ما نبني عليه صمتنا وانتظارنا، إلا أننا نشعر بالخديعة عندما نرى بأعيننا صبيحة نفاذ القرارات غلاء متزايداً، وعجزاً إضافياً في مقدراتنا، فلو أن أحداً يخرج إلينا ويشرح لنا ماهية الخطة التي يعملون على أساسها، ونوعية النتائج التي يطمحون لتحقيقها، لما استنكرنا قراراً، ولما فوجئنا بصغيرة أو كبيرة.
كل هذه التفاصيل تدفعنا للاعتقاد بأن القرارات لا تنتج عن دراسة كافية، أو فكر اقتصادي اجتماعي يؤسس لمستقبل أفضل، أو يعمل لخلق بيئة معيشية تلحظ الفقر والعوز والعجز، وهذا ما يجبرنا على التشاؤم، ويجعل ثقتنا بالقادم مفقودة، فنحن اليوم في غرفة الإنعاش، وربما نصبح أثراً بعد عين، ولا ندري إن كان في أفقنا بارقة أمل.
غيث حسن