الوحدة 30-9-2020
العروبة حقيقة حضارية متجذرة في وعينا وثقافتنا، وهي جامعة تستوعب كل أشكال التنوع والتعدد، وقد تردت الأوضاع في المنطقة العربية وأخفق العرب والمسلمون في التفاعل مع الأحداث وأجهضت الجهود لبعث اليقظة العربية التي بدأها الأفغاني ومحمد عبده منذ أواسط القرن التاسع عشر وصار لزاماً علينا الآن استعادة الهوية الحضارية ومعالجة أسباب فقدانها الذي أدى إلى تراجع وتردي مصير شعوبها والاستفادة من تجارب بعض الأمم التي استطاعت تجاوز تخلفها وانطلقت لبناء حضارة جديدة وفق خطوات وأسس علمية وحضارية يجب على العرب اتباعها والاستئناس بها للخروج من نفق التخلف وقبضة الخطط الاستعمارية والصهيونية التي طالت أمد الركون إليها.
تكوّنت الهوية الحضارية العربية من تفاعل مكونين رئيسيين، الأول عام ويتمثل بالنظرية الكونية الإسلامية ونظامها الحياتي والعقائدي والعلاقات القائمة بين البشر من حيث التعددية والتفاعل الحضاري القائم على الاقتصاد المتنوع والتربية والعدل والعلم والعلاقات الأسرية المجتمعية الدولية، الثاني خاص يتمثل بالعروبة وأساسها من حيث اللغة والثقافة والرسالة والتاريخ المشترك.
لا جامع لشؤون المجتمع في مختلف مجالاته إلا بلغة قومية عميقة الجذور في التاريخ البشري ومواكبة روح العصر ومتطلباته، واللغة هي وعاء الهوية ولسان المواطنة وحاملة الموروث الثقافي والحضاري وآلة الإنتاج المعرفي والإبداعي، وبقاء الهوية الحضارية مرهون ببقاء اللغة القومية الجامعة الموحدة على الصعيدين الوطني والقومي، وإن أي لغة بالكون تحيا بالاستعمال وتموت بالإهمال، وكما قال تشرشل ذات يوم: (إن بريطانيا تتخلى عن امبراطوريتها ولا تتخلى عن شكسبير) بمعنى أن الاحتلال المباشر للأرض مهما طال فهو زائل إلى غير رجعة ولكن احتلال العقل والتحكم به وتوجيهه هو الأساس وهو الأبقى.
المنطقة العربية تشهد تحديّات وجودية غير مسبوقة تتعلق بالهوية والانتماء عبر النفخ في محرقة الأديان والمذاهب والأعراق ومحاولات نسف الهوية الوطنية الجامعة والسعي لتشكيل وعي زائف لحقيقة وجودنا الحضاري، ومنذ بداية القرن العشرين والغرب يحاول استمرار وجود الإمبراطوريات الأوربية الاستعمارية في حوض المتوسط لتمزيق الوطن العربي جغرافياً والحيلولة دون التقاء أي قطرين عربيين في إطار وحدوي سليم عن طريق افتعال خلافات بين الأقطار العربية وزجها في نزاعات جانبية سعياً منها لتمزيق الشعب العربي فكرياً عن طريق تشجيع المذاهب والطوائف الدينية وتحريض بعضها على بعض لضمان السيطرة على المنطقة كلها وبقائها ترزح تحت التخلف بأشكاله المختلفة، وإقامة مشكلة دائمة وحاجز بشري مصطنع معاد للشعوب العربية في قلب المنطقة العربية ويكون صديقاً وملبياً لرغبات الغرب وهو الكيان الصهيوني، كما أن الفكرة الإخوانية ولدت لمحاربة الهوية الحضارية العربية وإنكارها وتسفيهها لمنع قيام الدولة العربية الواحدة، ثم الفوضى الخلاقة وما تواجهه الدول العربية من عدوان بفعل الإهارب وما خلفته الفوضى من تشققات وندوب في الجسد الوطني بفعل ما سمي بالربيع العربي القذر والعمل على تمزيق اللغة العربية إلى لغات ولهجات محلية عامية والابتعاد عن الفصحى التي جمعت العرب ووحدتهم بحيث لا يعرف سكان أقطار الوطن العربية لغة أشقائهم في منطقة أخرى سواء في الغرب أو الشرق، وإخفاق الحركات القومية العربية في مواجهة المشروع الصهيوني وانشغالها بالصراع فيما بينها، بينما استطاعت الحركة الصهيونية من تحقيق أهدافها في غضون 50 عاماً من قيام دويلة اسرائيل.
الحضارة العربية الآن في فترة نكوص وتراجع وتخلف في جميع مناحي الحياة، وتمزق جغرافي وفكري وسياسي واقتصادي ولغوي، وإذا بقي الحال على ما هو عليه الآن سيختفي من الوجود مصطلح الهوية الحضارية العربية وتتضاعف النتائج الكارثية التي ستحل بالأمة العربية.. علينا إحياء الهوية الحضارية العربية من خلال إحداث تفاعل بنّاء بين مكوناتها والاستعانة ببعض تجارب الأمم الحية في النهوض من كبواتها والخطوات التي يمكن للعرب اتباعها والاستفادة منها.
نعمان إبراهيم حميشة