الوحدة: 14 حزيران 2020
يقع تل التويني شرق مدينة جبلة على بعد 35 كم من أوغاريت العاصمة الكنعانية الشهيرة (رأس شمرا)، يتوسط سهلاً خصباً على بعد حوالي 2000 م من شاطئ البحر وكان على علاقة مباشرة مع مدينة جبلة، هذا ما قاله الدكتور إبراهيم خير بيك عن تل التويني وأضاف: بدأت بعثة أثرية سورية بلجيكية مشتركة منذ عام 1999 بالأعمال الأثرية التنقيبية لمعرفة تاريخ التطور الحضاري لهذا الموقع الذي يحيط به العديد من المجاري المائية التي تصب في البحر المتويط منهما: نهر الرميلة والفوار، حيث يأخذ التل مسقطاً إجاصياً رأسه يقع في الجهة الغربية وتبلغ أبعاده حوالي 400م ومساحته 11,6 هكتاراً، وهو يرتفع عن السهل المحيط به من 15 حتى 20م، وتهدف الأعمال المنفذة في الحقول المختلفة إلى الكشف عن السويات المتلاحقة والتي أعطتنا العديد من المعلومات عن طبيعة التطور الحضاري والتقني والاقتصادي خلال العديد من الحقب والعصور، وتم الكشف خلال المواسم الممتدة من عام 1999 وحتى عام 2009 عن العديد من الأحياء السكنية والمنشآت التي تعود بشكل أساسي إلى عصري البرونز والحديد عصور البرونز.
يقول د. خير بيك: أدت أعمال التنقيب في العديد من الأسبار إلى الكشف عن سويات سكنية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وكانت الأسبار العميقة قد مكّنت من الكشف عن العديد من السويات المتلاحقة والتي تعود إلى عصر البرونز القديم (الثالث والرابع 2000-2500 قبل الميلاد) ولم تنته هذه الأعمال حتى الموسم الأخير.
وبالتالي لم يتم الكشف عن بدايات الاستيطان في هذا الموقع، ويعتقد أنها تعود للعصور الحجرية (الألف السادس قبل الميلاد).
وذلك استناداً إلى بعض اللقى التي وجدت في المنطقة المحيطة بالتل والواقعة في سهل جبلة، كما تم الكشف عن مدفنين ضخمين على علاقة مباشرة مع بقايا سكنية.
وكانت التقاليد الجنائزية في هذه الفترة تقوم على دفن الموتى تحت المساكن، وقد تم التأكد من هذا التقليد من خلال الكشف الاستثنائي لإحدى هذه المدافن الجماعية والمؤرخة في عصر البرونز الوسيط الثاني (حوالي 1700 ق . م) وجدت داخل هذه المدافن بقايا 48 هيكلاً عظمياً إنسانياً بأعمار مختلفة، أما الأثاث الجنائزي فقد تألف من أكثر من 160 إناءً فخارياً حفظت بشكل كامل، بالإضافة إلى العديد من الدبابيس البرونزية ودمية للرّبة عشتار مصنوعة من الفريت، كما تم اكتشاف عقد قلادة وختم أسطواني، وتتألف القلادة من عدّة حبات من الخرز الفينيقي ونوع من الحجر يتوسطها ختم من حجر الكوارتز.
وأيضاً عثر على ختم أسطواني يحوي على صور متعددة منها شخص على شكل حيوان يصارع حصاناً مجنحاً يمثل مشهداً ميثولوجياً كان متعارفاً عليه كرمز للقوة ويعود لعصر الحديث الثاني (القرن الثامن قبل الميلاد) وعثر على وزنة بشكل أسد وهي مصنوعة من البرونز وتعود لعصر البرونز الحديث وعلى نقد من الفضة على سطح الموقع بالحقل، حيث وجدت على الوجه الأول للنقد صورة أسد محاط بكتابة عبارة كلمة (أوتريخت) والوجه الثاني عليه صورة فارس في الجزء العلوي منه وفي السفلي أسد بحجم أصغر والمشهد محاط بكتابة ويؤرخ هذا النقد لعام 1662 م ومصدر هذه القطعة من منطقة هولندا بلجيكا، والتي كانت في ذلك الوقت مقاطعة واحدة.
وهناك احتمالان لوجود هذه القطعة النقدية في الموقع، فالاحتمال الأول يقول بأن هذا النقد يعود لتاجر في المقاطعة المذكورة جاء لشراء القطن والثاني يقول بوجود شركة انكليزية كان اسمها شركة المشرق ولها فروع في حلب وانطاكيا استخدمت من هذه النقود لشراء منتجات شرقية بمختلف أنواعها وتصديرها إلى أوروبا.
ومن ضمن ما عثر عليه ختمان أسطوانيان من الغرانيت أحدهما يحمل صورة شخصين متقابلين بينهما صولجان وخلفهما مشهد مؤلف من غزالين متقابلين بينهما عنصر زخرفي هندسي وأما الختم الثاني فهو عبارة عن مشهد لشخص أمامه شجرة وخلفه حيوان محرر ومحاط بعناصر زخرفية هندسية ونباتية ويعود تاريخ هذين الختمين لعصر البرونز الحديث، وأما المدفن الآخر فيعود للفترة نفسها وضم بقايا عظمية لسيدة مع طفلها، وبالمقابل كشف في الحقل الثاني مدفن جماعي يضم هيكلين عظميين كما وجد أثاث جنائزي تألف بشكل أساسي من بلطة متطاولة من البرونز وأبريق كبير ثنائي اللون، وجد ما يشابهها على طول الساحل السوري – اللبناني في مدن مثل أوغاريت وسوكاس وعمريت وجبيل، وخلال عصر البرونز الحديث (النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد) لعبت مدينة جبلة دوراً هاماً وأساسياً في هذه المنطقة وأعطتنا الرقم المسمارية المكتشفة في مدينة أوغاريت العديد من الوثائق التاريخية والاقتصادية المهمة اعتباراً من عام 1350 ق. م وحتى سقوطها حوالي 1200 قبل الميلاد من جراء هجمات شعوب البحر وكان لمدينة جباليا نفوذ هام وأساسي فالنص الأكادي الذي يعود لفترة حكم الملك الأوغاريتي نكميبا يتحدث عن اتفاق بينه وبين أنتي ملك سيانو بهدف وضع الحدود الجنوبية للملكة الأوغاريتية، ولقد تحدّث هذا النص عن العديد من المدن والقرى التي كانت تتبع لمملكتي أوغاريت وسيانو وكانت مدينة جباليا تحت السيطرة الأوغاريتية وأدى سقوط مدينة أوغاريت إلى الانهيار الكامل للمملكة الأوغاريتية وبالتالي زوال النظام السياسي والاقتصادي في العديد من المدن والمواقع ومنها مدينة جباليا وموقع تل التويني.
ويتابع مدير الآثار قائلاً: نشير في هذا الصدد إلى أن تل التويني كان خلال عصر البرونز على علاقة مباشرة مع البحر وذلك من خلال الخليج الداخلي المنفتح بصورة مباشرة باتجاه الغرب وقد مكنت الدراسات الجيومورفولوجية من تأكيد العديد من المعطيات التي تشير بشكل واضح لوجود مرفأ كان على علاقة مع الموقع كما هو الحال في مدينة جبلة وقامت خلال الألف الأول قبل الميلاد في منطقة سهل جبلة العديد من المدن والمواقع الرئيسية نذكر منها تل التويني وتل سوكاس وتل سيانو وكانت عبارة عن مدن ومناطق استيطانية فينيقية.
وقد كشف في الحقل (ب) عن مجمع ديني يعود للقرنين السادس والخامس قبل الميلاد تألف من بناء ضخم يتمحور حول منطقة رئيسية مقدسة وعدد من الباحات الخارجية والداخلية، ويأخذ الحيز الأكثر قدسية شكل مستطيل يضم غرفتين متتاليتين وظيفتهما
الدينية محددة بصورة دقيقة، بالمقابل كشف الحقل (p) عن عدد من المساكن التي كانت تنتمي إلى أحياء منظمة تندمج بصورة كاملة مع التنظيم المعماري للموقع ولقد ضمت أرضيات هذه المساكن العديد من البقايا الأثرية، نذكر منها: أحواض عصر الزيتون ومنشآت لعدد من الحرف اليدوية والزراعية البسيطة والتي كانت في غالبيتها مؤرخة لعصر الحديد الثاني.
العصور الكلاسيكية
ويحدثنا د. خير بيك عن العصور الكلاسيكية التي تشير النقود المكتشفة من العصور الكلاسيكية في أماكن مختلفة من الساحل السوري إلى أن مدينة جابالا كانت تقوم بصك النقود خلال القرن الثالث قبل الميلاد وذلك من خلال أنماط مشابهة مع تلك التي كانت تصدرها جزيرة أرواد باستثناء الإشارة الواضحة لمدينة جابالا بحرفي ج – ب (جاما – بيتا) وأصبحت مدينة جبلة اعتباراً من القرن الأول قبل الميلاد مدينة مستقلة وبالتالي بدأت تتطور بشكل واضح بينما هُجر تل التويني بشكل كامل باستثناء بعض النشاطات الزراعية لكي يعود له النشاط في العصر البيزنطي وبشكل بسيط
من خلال بعض المزارع والمنشآت الصناعية التي كانت تنتشر بشكل متقطع على سطح التل يذكر منها ما كشف في الحقل (ب) وهي عبارة عن مزرعة يتم فيها تصنيع النبيذ بالإضافة إلى القيام بالعديد من النشاطات الزراعية وتربية الماشية.
وقد ذكرت الحوليات الآشورية (858 أو 844 ق.م) العديد من الحملات التي تمت في المنطقة وقد أدى بعضها إلى تخريب العديد من المدن والمناطق منها تل سوكاس خلال حملة سلمنصر الثالث وكذلك يمكن أن نذكر حملة تكلانيكلا صر الثالث التي وصلت إلى ساحل البحر المتوسط، وكانت في ذلك الزمن مدينة سيانو قد ضمت التحالف الآرمي تحت أمرة مدينة حماة والتي سقطت بشكل نهائي في حوالي 120 ق.م من جراء الاجتياح الآشوري تحت أمرة الملك ساغروث الثاني وتذكر الوثائق التي تعود للقرن الثالث قبل الميلاد أن الفرعون المصري أبريس 588 ق.م والملك البابلي تابونيد 550 ق.م قد قاما بحملة اعتقالات في هذه المنطقة وذلك من خلال الغزوات العسكرية التي قاما بها والتي كان لها العديد من التأثيرات السياسة والاقتصادية في المنطقة وعلى الخصوص جبلة وسوكاس وسيانو ولعبت أدواراً تجارية.
خديجة معلا