حــــب في زمـــن الكورونـــــا

العدد: 9555
الأثنين : 23 آذار 2020

 

(هذه بطاقتي الجامعية وهذه بطاقة نقابة المعلمين و . . .و . . . و . . أرجوك اسمح بأن توصلني سيارة الأجرة إلى كلية الآداب، فالأمطار غزيرة كما ترى والمسافة طويلة)
هز الحارس رأسه نافياً معتذراً لأن القوانين لا تخوله إدخال أي سيارة لا تحمل مهمة رسمية في الأحوال العادية, فكيف سيفعل ذلك في أيام كهذه…
انتفض رأسها الصغير بألف فكرة لكنها تهاوت كلها أمام نظراته الحادة وعندما شعر بخيبتها عرض عليها الانتظار قليلاً فربما تأتي سيارة نظامية متوجهة إلى هناك يرسلها بها.
لم يكن بمقدور علا الانتظار أكثر فقد يطول ذلك، وحبيبها العسكري القادم في إجازة قصيرة ينتظرها منذ ساعتين بعدما عجزت عن إيجاد وسيلة نقل قادمة من القرية في ساعة مبكرة..
وبدأت تفكر في زمن الأزمات الذي يتوحش فيه الجميع ويتسلط، السائق يتحكم في الأجرة مستغلاً حاجتك، الممرضة (الوزيرة) التي تنظم الدور في عيادة الطبيب تعاملك كأنك حشرة، المحاسب في المؤسسات الاستهلاكية ينهرك، بائعة الخبز التي تقبض مئتي ليرة بدلاً من خمسين…
ومضت المعلمة الشابة تصارع مظلتها والريح وأمطار مشاكسة وكعب عال أجبرت على ارتدائه حتى لا تبدو قصيرة قرب علي بقامته الطويلة المميزة، إنه حب حياتها الذي التقته في بداية سفرها إلى حلب لمباشرة عملها التعليمي في ريفها فكان عيناها في مدينة تجهل تفاصيل شوارعها وناسها…
كانت قصة حب رائعة ستكلل بالزواج كما اتفقا بعدما حفظت شوارع حلب خطواتهما وهمساتهما لكنها الحرب الغادرة جاءت وأخذت معها كل المخططات، فعلي توقف تسريحه وتم الاحتفاظ به، وحوصر أكثر من مرة وأصيب أكثر.. و..
وعادت علا لتعلم في ريف اللاذقية وريفها الآخر عالق في روحها، ومضت الأيام مشحونة بالفراق والخوف وضغط الأهل وسنوات الحرب التي أبت أن تنتهي… وأخيراً فقد علي إحدى عينيه بشظية غادرة، تنهدت علا وهي تحاول الانشغال بذكريات وآمال لئلا تشعر بالمسافة التي تقطعها بشكل شبه يومي بعدما عادت للدراسة الجامعية لتبعد نفسها عن أهلها ومشاكلها معهم بهدف تزويجها من آخر، لاسيما بعد استشهاد زوج شقيقتها وعودتها للحياة معهم برفقة طفلة صغيرة،
لقد زادت الخلافات مع أخيها الذي كان يسرع في تزويجها لإحضار عروسه إلى بيت العائلة، هو الآخر مسكين، إنه مرتبط منذ سنوات ولم تتحسن ظروفه.
(لماذا بنوا كلية الآداب في آخر الجامعة، لمَ لمْ يستغلوا هذه المساحة الكبيرة المهدورة قرب اتحاد الطلبة، وهذا المدرج هل سينجز يوماً؟ لقد هرم قبل أن يفتتح؟ هدر للأموال والمساحات… سأمر من نفق المرآب يكفيني كل هذا البلل….)
وقطع عليها تفكيرها رنين جوالها: نعم حبيبي أنا قادمة، لا، لا، ابق مكانك لا أريد أن يرانا أحد ويخبر أهلي كفانا مشاكل معهم.
وعادت تحث الخطا التي تباطأت لا إرادياً، تمنت أن ترى أحداً، أي أحد، لقد تذكرت أنها لم تر سوى الحارس منذ بعض الوقت،رالجامعة التي تضج بالحياة والألوان والأحداث خاوية، انكمشت على نفسها وانتظرت أن يخرج بعض الأحياء الأموات من هنا وهناك كما في فيلم مدينة الأشباح (لعن الله الكورونا) الناس في العالم فرقهم الصراع على الحياة وجمعهم الفيروس، حتى أمي انشغلت بمتابعة المستجدات ونسيت أن تسألني عن سبب نزولي إلى المدينة في هذا الظرف، يا عمري يا علي، لقد تحملت أعباء السفر لتعايدني في عيد المعلم وذكرى ميلادي؟ كيف لا أحبك وأنت نور عيني في هذه الحياة المظلمة؟
(هاااااهااااااهااااتشي هاااااتشي…هاااااا)
يا إلهي ما هذا، أنا أعطس، لا مستحيل، أيها الحارس الأحمق، هل أنت سعيد الآن؟ لو سمحت بدخول سيارة الأجرة ما أصابني ما أصابني.
ولاحت قامة فارعة كالنور في نهاية النفق، كان علي بانتظارها، أرادت أن تركض إليه، أن تضمه وتقبل عينه لكن (هاااااتشي…ههه.هاااتشي)
رن جوال علي: نعم حبيبتي، هذا أنا، توقعت أن تخافي في النفق فأتيت لملاقاتك..
ماذا يا مجنونة… إنه تحسس من الطقس البارد، لا يمكن أن تصابي بالكورونا هكذا.
كانت علا تستدير عائدة من حيث أتت خشية أن تنقل العدوى لحبيبها وكان علي يركض خلفها ليمسك ذراعها ويوبخها قائلاً: ستظلين طفلة…
هل أنت معلمة حقاً؟ كيف ستعلمين تلاميذك طرق الوقاية من الأمراض إن لم تعرفيها أنت؟
ههههههههاااتشي …
خذي علبة كمامات هدية عيدك، كل عام وأنت حبيبتي..
وضحك وضحكت علا بقامتها القصيرة التي لم يفلح الكعب العالي معها كثيراً بينما استطاع هو أن يفعل ويرفعها عالياً في سماء الحب بينما كانت الشمس تلوح لتنعكس ألوان قوس قزح في قلبيهما ويزهر ربيع من أمل.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار