إحداهـــن تعمل في مغســـــل ســــيارات! من يحميهـــن.. نســــاء امتهنَ البيع على الطرقــــات والأرصــــفة

العدد: 9506

الاثنين: 13-1-2020

 

تبدأ رحلتهن اليومية بحمل الحشائش وبعض الخضار وغيرها لبيعها على الأرصفة التي تشهد ازدحاماً أو بالقرب من الأسواق، حيث يقفن بصمت أمام بسطاتهن منذ سنوات من دون أن تعلو أصواتهن على الزبائن، فهن يقمن بالعمل كل يوم في البرد القارس والأمطار الغزيرة وتحت أشعة الشمس بقلب مثقل بالهموم وشفتين ترسمان ابتسامة شاحبة ويدين مرتجفتين وعينين حائرتين ترسمان ملامح أنثى أثقلها الحزن والقلق وهي تسعى لتأمين ما يعينها على تحمل أعباء الحياة، يفترشن بسطات لبيع الخضار وبعض المنتجات الزراعية والحيوانية من ألبان وأجبان وخضراوات وحليب وبيض بلدي قروي، فالسوق شريان وجودهم ووسيلة كسب رزقهم حيث تضطر الوحدة منهن للوقوف طويلاً أمام المحلات والأرصفة والشوارع وتترقب الوقت والساعة لتصريف بضاعتها والعودة إلى منزلها فهي معروفة بصفة بائع ومعيل وأم.
مشاريع صغيرة يجب دعمها
من خلال انتشار النسوة ووضع ما أنتجته القرية أمامهن رأينا خلال جولة لنا في السوق مجموعة منهن تجلسن على الأرصفة مفترشات الأرض بما أنتجت حقولهن حيث التقينا (أم بدر) على أحد أرصفة الريجي القديمة بالقرب من سوق الخضرة وسط الناس والمارة فقالت: أبيع منتجات القرية من ألبان وبعض البيض والخضراوات القليلة فهي تعيل خمسة أولاد ما عدا زوجها الذي تزوج من امرأة أخرى وتقول عن مهنتها بحرقة بأنها غير نافعة فربحها قليل مقارنة بالجهد الذي تبذله وإنها تعمل منذ شروق الشمس حتى المساء تقريباً، وتقول لولا أوضاعنا الصعبة لما اضطررنا أن نخرج منذ الفجر حيث أحمل ما بقدرتي أن أحمله لكي أبسط به لأنني بحاجة لمصدر دخل فأنا لا أخاف من العمل تحت المطر شتاءً أو من ارتفاع الحرارة صيفاً وإنما أخاف أن أعود مساءً إلى البيت دون أن أحصل على مبالغ مالية كي أطعم أولادي، فنحن نمضي وقتاً طويلاً في عملنا هذا حتى نكسب لقمة العيش وتأمين المستلزمات اليومية.
وأمام ذلك هناك الكثير من المواطنين يرغبن الشراء من تلك النسوة من باب التعاطف معهن فقد ذكرت (سعاد مهنا): أشتري من تلك النسوة بشكل مستمر حسب الوجبة التي سأقدمها لعائلتي كالسبانخ والسلق وبعض الحشائش الأخرى وإن صورة تلك الفئة من النساء هي صورة مكتملة من الناحية الإنسانية والاجتماعية، وأيضاً التقينا مجموعة من المواطنين الذين كانوا يشترون منهن فكانت جميع الآراء تفيد بأن هناك معاناة لهذه الفئة وما تصوره لنا من قهر لتلك النسوة وللظروف الصعبة التي يعشنها، فهذه الفئة التي بادرت وكونت مشاريع صغيرة حتى لو أنها غير مرخصة يجب دعمها من قبل العديد من الجهات.
أم خالد امرأة تركت زهرة العمر وترك الزمن عليها آثار الكد المتواصل فهي أجبرت على اختيار الرصيف مكاناً لبسطة متواضعة تبيع عليها بعض المحارم والقداحات وقليل من مصمود الزيتون بسبب مرض زوجها وتعطله عن العمل وعدم كفاية المعيشة لسد حاجات الأولاد وتقول: إنني من خلال هذا العمل أكسب بشكل بسيط جداً لا يتعدى القوت اليومي كي أحاول أن أعيش منه فمن خلال جني أموال البيع أجلب الطعام من خبز وبعض المواد الغذائية القليلة جداً لأولادي وزوجي يحاول رغم مرضه العضال أن يساعدني في ذلك عندما تكون حالته الصحية يُسمح لها بذلك فهو يبيع الفواكه في مكان آخر إلا أن البلدية تضيّق عليه وتمنعه أحياناً من البيع.
نساء يمارسن مهنة الرجال
وانطلاقاً من ذلك فإن دوامة الحياة لهؤلاء النسوة بعد أن جارت عليهن الظروف أصبحن يمارسن مهن الرجال فالبائعة أم محمود تقوم ببيع الخبز فهي تطالب المسؤولين بالنظر إليهن لانتشالهن من الفقر وتوفير مكاناً ملائماً لهن ليتسنى لهن العمل بظروف جيدة كما تطالب بتوفير فرص عمل لأولادهن كي لا يضطرون للقيام بأعمال تأبى أنفسهم الإقبال عليها وقالت والله العظيم إنني أقوم ببيع الخبز من أجل توفير لقمة العيش فبيع الخبز هو مصدر رزقي الوحيد فهي ستظل تعمل وتكافح إلى آخر نفس.
وهناك امرأة تقوم بغسيل السيارات بشكل يومي في بعض أحياء المدينة وبعد معرفة المكان قصدناها باكراً حتى رأيناها تمارس عملها بابتسامة ورضى لا تخشى همومها رغم المسؤوليات التي تحملها على كتفيها فهي أتت بحثاً عن الرزق فقالت أم فوزي: أتمنى ألا تقوموا بتصويري وأنا أقوم بعملي، فزوجها على قيد الحياة لكنه يلازم الفراش بسبب مرضه وإنها تعمل وتقف إلى جانبه لتأمين لقمة العيش كل يوم فلا تستطيع ترك زوجها لأنه مريض وطريح الفراش ولديهم ولدان وقالت: أنا أواجه مشقة الحياة لوحدي وأدفع آجار المنزل فالعيشة صعبة والأسعار مرتفعة جداً وفي اليوم الذي لا أعمل فيه لا نستطيع أن نؤمن لقمة العيش.
وبالمتابعة ميدانياً لوحظ انتشار عمل النساء بائعات الخضار والخبز والمناديل الورقية ونسوة تمارسن أعمالاً أخرى في هذا السوق لأنه هذا هو حال العوز والظروف المادية والاجتماعية العصيبة يدفعن أغلب النسوة إلى العمل وعدم الاتكال على أزواجهن لتأمين متطلبات الحياة اليومية مقارنة مع الغلاء الفاحش الذي يكاد يحرق الشرائح والطبقات الأشد فقراً، ولكن هذا ليس السبب الوحيد كما علمنا من بعض النسوة اللواتي يقمن بالبيع فهناك رجال يكتفون بالجلوس في البيت أو المقاهي تاركين زوجاتهم وأولادهم يفترشون الأرصفة لبيع البضائع الرخيصة.

الحاجة وإشغال الأرصفة
ثم انتقلنا إلى أحد مداخل سوق الخضرة فالتقينا أم أكرم التي تبيع الخضار والحشائش على بسطتها وهي ترتدي زيها الريفي وتعلو وجهها ابتسامة بشوشة تركت آثارها على وجهها بالرغم من كبر سنها إلا أنها تمتلك حنجرة قوية تنادي بها الخضرة طازجة متحملة مشقة العمل حيث أنها اعتادت فرش خضراواتها منذ ما يقارب العشرين عاماً في تلك المنطقة فهي قادمة من إحدى القرى للحصول على رزق قليل تنفق على أبنائها فزوجها توفي دون أن يترك لها أي عائد مادي، وذكرت بأن ابنها الكبير هو الآخر يعمل من بيع الخضراوات ويساعدها في الإنفاق على متطلبات الحياة اليومية وحول ما إذا كانت تعاني من مشقات البيع والشراء قالت بأنها تعودت على الشقاء وناشدت المسؤولين النظر لأحوالهن والاهتمام بهن ورعاية المرأة المعيلة لأسرتها.
وبدورها أم وليد، سيدة في العقد الخامس من العمر تقول: ألا يكفينا ملاحقة شرطة المدينة لنا بحجة المحافظة على الأرصفة نظيفة وعدم إعاقة سير المشاة عليها أو لإرضاء أصحاب المحلات الذين ينزعجون من وجودنا لأنهم يعتقدون أننا نحن البسطاء ننافس محلاتهم الكبيرة مما نضطر لدفع مبالغ يومية أو شهرية لهم لكي يتم السماح لنا بوضع منتجاتنا أمام محلاتهم بشرط أن نكون على مسافة بعيدة نوعاً ما، ونحن هنا نقوم باستعمال الميزان الخاص بتلك المحلات لوزن المنتجات التي يتم بيعها للناس.
وأمام هذا الواقع وغيره تبرز معاناة أم فوزي حيث تتحدث مع معاناتها مع شرطة المدينة وعملية الكر والفر اليومية حيث تطلب منا أن نغادر فنقوم بجمع منتجاتنا وأغراضنا ونعود إلى منازلنا، وأحياناً يهبطون علينا فجأة وبشكل مباشر ويتم أخذ ما لدينا وهناك أسباب ومعطيات عديدة كانت الدافع أمام هذا الواقع المرير فعندما لا تكون الشرطة موجودة نستمر في العمل إلى ما بعد العصر أو المغرب وبشكل عام هو عمل شاق جداً ولكن ما العمل فقد تعودنا على هذا الواقع.
بصراحة هناك الكثير من الوعي لدى تلك النسوة اللواتي استطعن أن يحاورننا بكل جدية وعفوية مطلقة لنعرف كيف يتدبرن أمورهن اليومية في ظل أزمة العمل، فقد لا تكون النساء البائعات وحدهن عرضة للاضطهاد ففي حالة الفقر تستوي المشقة ليتم توزيعها للرجل والمرأة ولكن النسوة بائعات البسطات يحملن عبء الاضطهاد مرتين مرة في البيت الذي لا يستوعب أنها تعمل وعليها عبء تربية أولادها ورعايتهم والمرأة هنا متعبة حيث تخرج إلى العمل وتتحمل قسوة الظروف واستغلال التجار وملاحقة الشرطة وألفاظ الزبائن والمارة وأصحاب المحلات التجارية فهي تحتاج إلى مساهمة جادة من المؤسسات الأهلية.
وفي الختام
نتمنى إيجاد حل حقيقي يساعد تلك النسوة على العمل الشريف لأنه يشكل تراث ريفي مفعم بالإنسانية وحب العمل الشريف في ظروف أفضل، فهل تقوم الجهات المعنية بإيجاد أمكنة منظمة ومخصصة لبائعات المنتجات الزراعية الريفية، فهي بطريقة الملاحقة العشوائية تنهي حياة أسرة كاملة تعتاش من البسطات، فمن حقهن الحصول على ظروف أفضل وحياة مستقرة وهادئة.

بثينة منى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار