العدد: 9503
الاربعاء : 8-1-2020
لو أن الأمر بيدنا لجلسنا في بيتنا، لكنا لسنا مجانين ونحن عمال وموظفون نجري في مناكب الحياة وبمراكبها نبحر ونسير وراء عيشنا ورزقنا، ولا يهمنا كانون أو شباط أو آذار الهدار، نخرج صباحاً مثقلين باللباس والصوف ومكتنزين بدفء قلوب تضج بالحياة، فلا خوف علينا والمدافئ عند البائعين وفي الدكاكين تحط بأثقال ومراتب وموازين والمازوت خفيف والحطب حمله ثقيل يأتيك من الجبل بأسعار تلهب نار موقدك ليلتهم سعيرها ما في الجيب والرصيد من ودائع ومال جارٍ وتوفير ليكون رماداً تذروه ريح شتاء رغم أنفك الذي احمرّ لكانون المجنون والذي لا عرس لنا فيه.
* إسماعيل، في الصف الثالث يؤكد أن الصف بارد جداً وليس في المدرسة كلها مدفأة غير في غرفة المدرسين والمديرة، يشير بأن أمه توقظه في الصباح ليذهب إلى المدرسة، وهو يتململ في الفراش ولا يرغب الخروج منه ويتمنى لو تعطل المدرسة طوال الشتاء فهو يشعر بالبرد، رغم أنه في أكثر الأحيان يعود سريعاً للبيت لأنّ الجو عاصف وممطر، حيث ينحسر مد الأولاد في الصفوف ويتغيب معظم المدرسين، يعود للبيت الذي فرغ منه سكانه كل لمشاغله، فما يكون منه غير العودة للفراش للحصول على بعض الدفء لحين عودة أمه من وظيفتها، ولما تعود يسمعها تردد وتقول: (المجنون ما بيطلع من بيتو) .
* سعاد أحمد، موظفة: تشير أنها تصفي إجازاتها في كانون الأول، وفي كانون الثاني تعود ومنذ الأيام الأولى لنيل إجازة لكثرة البرودة في هذين الشهرين حيث يشتد الشتاء ولا وسائل تدفئة في مؤسستها، كما أنها في المنزل لديها مدفأة مازوت، لكنها لم تنل غير مئة لتر فقط وتنتظر لحين عودة دورها مرة أخرى، صحيح أن ثمنها حوالي 18 ألف ليرة، لكن ليس بالأمر اليسير أن تدفعها في شهر واحد، فهي تدخرها من بعض المصاريف وحاجات البيت والأولاد، وتحمد الله أنها تسكن في المدينة، حيث الحرارة أعلى منها في القرى الجبلية والبعيدة، ولا تحتاج للمدفأة غير في هذين الشهرين (كانونين) حيث يكون البرد بأشده، وتحلو أوقات السهر بجانب المدفأة أو حطب (الشمينيه)، ورفاقها من القرى البعيدة يضطرون للتغيب عن وظائفهم لشدة البرد وكثرة الأمطار التي تقطع عنهم الطرق ووسائل النقل قليلة وقد ينتظرون لساعة وأكثر تحت وطأة المطر.
* أبو جابر، مزارع يبلغ من العمر السبعين ينشد بأمثاله ويقول: (بكانون كن بيتك يا مجنون وكتر حطبك وزيتك، خلي قرماتك لكبار لكانون وآذار) لا يوجد شيء وقال عنه آباؤنا وأجدادنا إلا وهو صحيح وناتج عن تجاربهم وخوضهم في الحياة، حيث كانوا يمتهنون الزراعة والفلاحة على مدار شهور السنة ليكون بينها لهم استراحة وما يشبهها في شهري كانون الأول والثاني حيث تكون (المربعينية) قد وقعت واقعتها والبرد فيها بأشده، وقد جئت بالحطب بعد تقليم الأشجار وقص اليابس فيها، وكومته أمام المنزل ليكون زاد شتائنا وغذاء موقدنا، وهي أوفر من المازوت وأعلى حرارة كما يمكن توفير الغاز بسببها حيث تطبخ زوجتي عليها والطعام أطيب وألذ على الحطب، كما أن السهرات تحلو بها وقد تحلق أفراد عائلتي حولها لنلتقي جميعاً في المساء، إذ لا يستطيع أحد من الأولاد أن يختلي بغرفته مع الموبايل أو رفاقه لشدة البرد في الضيعة، لهذا ترينهم كلهم حولي يتحدثون ويتشاورون وقد نلعب بورق الشدة أو المنقلة وهو ما أطمع به وأنشده كل يوم، وأرى الفرح يتطاير شراره من وجه أمهم التي طهت لهم العشاء وحضرت الطيبات وما لذ للتسلية واستقبال الأقارب والجيران، فيكون بيتي في كوانين عامراً ومغموراً بالحياة والريح تعصف خارجاً.
* أم غنوة تشير أن لشهري كانون أول وثانٍ خصوصية وطقوساً جميلة نتلحفها ونتلقفها في اجتماع العائلة حول مدفأة الحطب والمطر خارجاً يطرق زجاج النوافذ والأبواب بألحان وموسيقى مؤثرة بالنفس تبعث البهجة والسرور، كما أنها تدفع صاحبة الدار لتنهمك في تحضير وجبات الشتاء الساخنة التي تسري في الأبدان دفئاً وصحة مثل: الحبوبية والهريسة والفاصولياء وشوربة العدس والكشك، وتضيف في ضيافاتها المشروبات: المتة والشاي والزهورات مع بدء الشمس والحمص الذي شوته على مدفأة الحطب وقد كان الأبريق قد ساخ وغليانه يقرقع في رؤوس الحضور التي اختمرت بالسرور.
لكن في الجهة الأخرى من هؤلاء الناس الممتلئين بالحياة وفصولها بشهورها الحاملة بالسعادة بحبل سرة العائلة والسكينة، أناس تقيدهم تقنيات العصر وتحصرهم أدواته في غرف النت التي انحشروا فيها على سرائرهم وحيدين حيث لهم غرفهم التي تكيّفوا فيها بمكيفات ومسخنات بعيداً عن العائلة والأصحاب وفي عالم آخر ليس فيه شتاء وكوانينه التي تهدر خارجهم بسكوت( فيكنون).
هدى سلوم- معينة جرعة