الوحدة – ريم جبيلي
في مدينةٍ تنبض بالموسيقى، وبين أزقة اللاذقية العتيقة، يتردد صوت العود دافئاً وعذباً، يحكي حكايات شغفٍ وأصالة، وحيث تُصاغ الأحلام بأنامل شابة، يلمع نجم عازف عود شاب استطاع أن يجمع بين الموهبة الفطرية والعلم الأكاديمي، بين الإحساس العميق والتقنية العالية.
ضيفنا اليوم ليس مجرد موسيقي، بل هو صانع نغم، يدرّس الموسيقى كما يعيشها، ويعزف كما لو أن العود امتداد لقلبه. في هذا الحوار، نقترب من رحلته الشخصية والموسيقية، ونتعرف إلى رؤيته للفن، للتعليم، الأستاذ العازف والمدرّس الموسيقي حمزة علي أهلاً بك، ونبدأ حوارنا بالسؤال الأول…
1. بدايةً، أخبرنا عن بداياتك مع آلة العود، كيف بدأت رحلتك الموسيقية؟
– أشعر أن رحلتي في تعلّم الموسيقى قد بدأت منذ الولادة، وهذا من خلال وجودي ضمن بيئة عائلية قلّما يغيب عن تجمعاتها طرب الموسيقى من عزفٍ وغناء، واستمرّت الأصوات والألحان تجوب مخيلتي حتى بدأتُ خطوة التعلم بشكل فعلي عملي في سنَّ السادسة من عمري، وقد كانت بدايةً جادة أتاحت لي بعد عامين فقط تحقيق المركز الأول على مستوى الجمهورية العربية السورية ولعامين متتاليين ضمن المسابقات الطلابية التي تقيمها وزارة التربية سنوياً في مجالات عدّة من بينها العزف على آلة العود. هذا كله ساعدني على التفكير بشكل جاد للاستمرار بهذا المسار حتى وصلت المرحلة الجامعية، ودخلت كلية التربية الموسيقية في جامعة حمص، حيث تخرجت منها بعد أربع سنوات حاصلاً على الإجازة في التعليم الموسيقي مع شهادة الخريج الأول على دفعتي آنذاك.
2. ما الذي جذبك تحديداً إلى آلة العود دون غيرها من الآلات؟
– كانت آلة العود حاضرة في كل وقت أقضيه مع عائلتي والأصدقاء، ومشاهدة والدي يعزف عليها منحني أفضلية تذوّق نغمها من عمر صغير، مشجعاً إياي بهذا لتجربتها بشكل عملي عن رغبة وشغف، وما أكد لي ضرورة استثمار وقتي وطاقتي فيها بالتحديد هو اكتشافي لقدرتها العالية على أداء جميع الأنماط الموسيقية التي تخطر على الأذهان تقريباً، فما وجدتها يوماً عاجزة عن أداء لحن معين، أو تمثيل فلكلور لأي شعب حول العالم، وبالأخص التراث الشرقي الذي تربينا على سماعه، فلا يوجد مقام أو سلّم موسيقي يصعب على آلة العود تصويره بشكل حيوي وجذاب مهما زادت تفاصيله وتعقدت تراكيبه.
3. من هم الأساتذة أو العازفون الذين كان لهم الأثر الأكبر في مسيرتك؟
– في واقع الأمر أشعر أن ما أعرفه اليوم هو مزيج بين خبرات الاستماع والتذوق للأعمال الموسيقية لكبار المؤلفين وتجربة أداء أعمالهم على آلة العود، وهذا يشمل التطور في نواحي تذوق الموسيقى وتوسعة الآفاق اللحنية في الذهن من جهة، ونواحي ممارسة العزف وفق مدارس الأداء العملي على آلة العود وأساليب التعامل مع الآلة بمختلف التقنيات و(التكنيكات) المتنوعة من جهة ثانية. أما من ناحية أنماط التأليف الموسيقي فلا نقدر على تجاهل أهمية ألحان قوالب التأليف الشرقي من موشحات وسماعيات وغيرها من الكلاسيكيات الشرقية في بناء هوية لحنية أصيلة للموسيقي، إضافةً إلى فلكلور منطقتنا وألحان منطقة بلاد الشام، وأجد نفسي في واقع الحال منجذباً لكل لحن مميز بغض النظر عن مؤلفه، فقائمة المؤلفين تطول، لذلك أفضّل القول إن ألحان منطقتنا الشرق أوسطية تركت بصمتها في أسلوب عزفي على العود، بينما من ناحية التكنيك في الأداء فهنا يكون جوهر العود وما يميز عازف عن آخر، لذا من خلال أداء مؤلفات محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش، يمكن للعازف أن يبني شخصية ناضجة تعكس زاوية كبرى من هوية المدرسة المصرية في الأداء على سبيل المثال، والتي شاع فيها تأليف موسيقى آلية منفصلة عن موسيقى الأغاني وألحانها، يضاف عليها طابع النغم الطربي الشامي الذي شاع فيه وغلبت على ألحانه القوالب الغنائية البحتة، وعند دمج هذه الخبرة اللحنية الطربية مع التكنيك المتقدّم في الأداء للمدرسة التركية والعراقية -والتي أشعر بها تميل أكثر للأكاديمية الرصينة- يخرج إلى النور عازف قادر على تقديم الطرب وألوانه ضمن قوالب أداء مضبوطة أكثر وتحمل طابعاً حديثاً معاصراً بدون الخروج عن هويتها الأصيلة، وأرى الفنان “منير بشير” ومن قبله “الشريف محيي الدين حيدر” هم أمراء هذه المدرسة.
4. كيف تصف تجربتك كمدرّس في معهد العجّان؟
– مما لاشك فيه أن معهد محمود العجّان يشكل نقطة تحول في مسيرة أي مدرّس يدخله، على الأقل ضمن مستوى محافظة اللاذقية، فلا أتوقع أن هناك معهداً آخر ضمن المنطقة الساحلية يوازيه من حيث عدد وسويّة الطلبة، فالأعداد كبيرة والإقبال واسع، وفي نفس الوقت الكثير من الطلبة أصحاب المواهب الفريدة يدخلونه لصقل مهاراتهم وتطويرها بشكل أكاديمي، وهذا ما يمنح المدرّس فرصة لا تعوّض لتطوير أساليبه في التدريس وتقنياته، لأن الاحتكاك مع سويّات تتنوع من المبتدئين إلى فريدي التميز يمنح للمدرس الفرصة لاكتساب خبرة تقديم الدروس.
الفردية والجماعية الفعّالة، فضلاً عن دروس النظريات الموسيقية والصولفيج، وهذا كله ساعدني لتطبيق الكثير من فنون وألوان طرق تدريس الموسيقى، واختبار فاعليّتها وتطويرها لتكون موائمة لكل أنواع الطلبة ضمن القاعة الصفية جماعياً وفردياً. كما أن المناهج المطروحة للتدريس في المعهد هي من أقوى وأصعب المناهج ضمن المنطقة، فهي تبني موسيقياً محترفاً قولاً وفعلاً منذ أعمار مبكّرة للغاية، لكنها تحتاج في واقع الحال لمدرسين أكفّاء بإمكانهم تبسيط المعلومة ونقلها بشكل نظري وحسّي إلى المتلقي، وهذا ما عملت على تطويره جاهداً خلال فترة عملي في المعهد.
5. هل تجد أن تعليم العزف يُثري تجربتك كعازف أيضاً؟
– العمل في مجال تعليم المهارات بخلاف أنواعها يحفّز المدرّس على تطوير نفسه بشكل دائم ليحافظ على مستوى متطور يميّزه عن غيره من المدرّسين ويسمح بوجود مراحل كثيرة متقدمة عن الطالب بالتأكيد، ويمكن لنا إسقاط هذا الأمر على تعليم الموسيقى، فمن بعد مرحلة معينة من تعليم أي متدرب، ينتاب المدرّس إحساساً باقتراب مهارة طالبه من مهارته هو شخصياً كمدرّس، وهذا يكون مفترق طرق بالنسبة للمدرّس، فإما أن يطور من نفسه بشكل أكبر ويزيد من معلوماته ومهاراته بغرض الحفاظ على مسافة مقبولة بين مستواه ومستوى طالبه، وفي نفس الوقت يتمكن من تطوير طالبه أيضاً من جديد، وإما أن يشعر بالعجز ويبدأ بالإحجام عن مهنة التدريس العملي، أو يبدأ باختيار طلبة من سوية معينة يرتاح لها. في كلتا الحالتين يقوم المدرس ببذل مجهود حقيقي مستهدفاً غاية نبيلة، لكنني أشعر أن هذا أمر يسهم بشكل فعّال في اختيار المدرس لطريقه وهدفه والفئة التي يستهدفها.
6. ما التحديات التي تواجهها عند تدريب طلاب جدد على آلة العود؟
– تنقسم التحديات إلى نفسية وعملية، فمن أشهر التحديات النفسية خصوصاً عند تعليم البالغين هو المعرفة التي غالباً ما تكون منقوصة حول الموسيقى وتعلّمها لدى الطالب، والتي يبنيها الشخص من خلال الاحتكاك مع موسيقيين غير أكفاء من الناحية التربوية، أو قراءة مقالات عشوائية على الانترنت، وخصوصاً مع عصر السرعة الفائقة الذي نعيشه، يتشكّل في ذهن المتعلّم أهداف غير منطقية ليست قابلة للتحقيق، مثل استهداف تعلم آلة ما خلال بضعة أسابيع أو شهور، أو الابتعاد عن دراسة الصولفيج والنظريات الموسيقية ظنّاً منه أن هذا الأمر يحرق المسافات ويكسبه خبرةً أكبر في وقت أقل، غافلاً بذلك عن أن عملية تعلّم العزف هي طائرة بجناحين، ولا يمكن لها التحليق معتمدة فقط على جناح الدراسة العملية، فالدراسة النظرية ليست رفاهية أو ثانوية أبداً.
أما من ناحية التحديات العملية، تأخذ عدة أشكال مثل عدم ملاءمة الآلة التي يرغب بها المتعلم لمقدراته الجسدية مثلاً، لكن في غالب الحالات يكون التحدي الأكبر عدم التزام المتعلّم بخطة التمرين اليومية التي رسمها له المدرّس، معتقداً أن مجرد أخذ الدروس مع المعلّم كافٍ له، ناسياً أن الجهد يقع في معظمه على الطالب لا على المعلّم، بينما تتمحور في الواقع مهمة معلّمه على تيسير الصعب له وتوجيهه إلى كيفية التعامل مع الآلة.
7. هل قمت بتأليف مقطوعات خاصة بك؟ وإن كان نعم، هل تعتمد فيها على الطابع التراثي أم تمزج بين الحداثة والأصالة؟
– لم تكن لي محاولات جادة في تأليف موسيقى آلية ذات قالب واضح، لكنني أنوي أخذ هذه الخطوة مستهدفاً بناء موسيقى معاصرة من روح الزمن الذي نعيشه، شرط أن تكون ضمن القوالب الموسيقية المعروفة واضحة المعالم التي تتيح لمختلف الموسيقيين والمتعلمين عزفها والاستفادة منها، ويكون بمقدور الذائقة الحالية الشائعة أن تأنس بها وتفهم تفاصيلها، لأنه كما هو واضح أن هذا هو عنوان الفن في المرحلة التي نعيشها الآن.
8. حدثنا عن مشاركاتك في حفلات أو مهرجانات موسيقية، سواء داخل سوريا أو خارجها.
– كانت لي مشاركات موسيقية سررت بها وأثرت خبرتي خلال فترة تواجدي في سوريا، تركزت في غالبها على بناء الفرق الموسيقية أكثر من اعتمادها على الأداء الفردي، بدأت بها من خلال تأسيس كورالات وتدريبها ضمن عملي مع المنظمات الإنسانية والمجتمعية، وصولاً إلى بناء فرق موسيقية بقوامٍ من طلبة معهد محمود العجان يشاركهم فنانون من خارج المعهد، وهو ما ظهر بشكل واضح من خلال احتفاليات كانت لنا مشاركات فيها ضمن جامعة اللاذقية والمراكز الثقافية، واحتفاليات أخرى ينظمها المعهد تحت رعاية وزارة الثقافة بشكل دوري، لربما أكثرها تميزاً هو احتفالية ملتقى معهد محمود العجان للموسيقى السنوي، فمن خلاله نتمكن من عرض إبداعات طلبتنا على خشبة المسرح للجمهور المتعطش لسماع كل ما هو مميز، وبنفس الوقت نكتسب كمدرسين خبرة العمل مع الطلبة على اعتبارهم عازفين محترفين، ونستعرض مقدراتنا كمدرسين على اختيار الألحان وتوزيعها بشكل ملائم.
أما خارج سوريا فإن حفلاتي الموسيقية تأخذ بغالبها سمة العزف الفردي ضمن سلطنة عمان، فالجمهور يرغب بسماع الموسيقى والأغاني التي يحبها ويألفها جيداً، لكن طريقة طرحها له هو السمة التي تميز ما تمكنت من تقديمه، من خلال التعاون مع المنظمات الدولية والسفارات والمؤسسات الرسمية في العاصمة مسقط، وصولاً إلى المرافق السياحية والمنتجعات ذات الشهرة الواسعة من حول العالم.
9. ما الدور الذي تلعبه المعاهد الموسيقية مثل معهد العجّان في دعم وتنمية المواهب؟
– معهد محمود العجّان -حاله كحال العديد من المعاهد التدريبية- يعتبر ملجأً آمناً للطامحين إلى تعلم الموسيقى بشكل صحيح منهجي وأكاديمي، ولعلّ أبرز ما يميزه هو تقديم مزايا تدريسية تفوق معظم المراكز من ناحية جودة التعليم ومنهجيته ضمن خطط واضحة يغلب عليها الصرامة الأكاديمية بهدف صقل الموهبة بعيداً عن التراخي، وباعتباره مؤسسة عامة فقد أتاح لطلبته تقديم مشاركات على خشبة المسارح واكتساب خبرة أكبر، فضلاً عن الدعم المالي الحكومي له، والذي أتاح للتلاميذ التعلّم بمبالغ رمزية تسمح لهم بالدراسة بعيداً عن التفكير في التكاليف الدراسية وغيرها من العوائق المادية التي أحكمت قبضتها على الشعب السوري خلال السنوات الماضية ورسمت حدوداً لأحلامه، فيأتي هنا معهد محمود العجّان كحل فريد متكامل الجوانب.
10. هل تجد أن الجمهور السوري لا يزال متذوقاً للموسيقى الشرقية والعود؟
– إن الجمهور السوري ليس بمعزل عن التطور الحاصل حول العالم من اتجاهات جديدة في ميول وذائقة الأفراد نحو الموسيقى الإلكترونية وأنماط التأليف الخفيفة، لكن المثير للاهتمام أن السوريين بغالبيتهم وعلى اختلاف خلفياتهم الثقافية يألفون صوت العود، ويقدّرون الأداء الجيد المتقن، فمهما نال العبث من القيمة الفنية للموسيقى الشائعة، تبقى تفضيلات السوريين ميّالة إلى الأصالة وشغوفة بما يطرحه التراث السوري من ألحان، ولكن ما على الموسيقيين اليوم فعله هو تقديم الفلكلور السوري المتنوع في قوالب عصرية وأنماط حداثة تتيح للمستمع أن يستمتع بما يحويه تاريخه وثقافته من جمال، لكن ضمن إطار حديث معاصر، وهذا ما نلمسه حقيقةً من تطور للموسيقيين السوريين في الأداء على آلة العود خصيصاً بشكل لافت، وشهرتهم التي ذاع صيتها حول العالم نتيجة للهجرات التي أُجبر عليها كثير من الفنانين السوريين خلال سنين الثورة.
11. هل تفكر في مشاريع موسيقية خاصة، مثل فرقة أو ألبوم؟
– على الرغم من السنين التي قضيتها في ميدان الموسيقى مازلت أجد نفسي بحاجة أكثر للدراسة والتعلم واكتساب الخبرات، ولا أستبعد أخذ خطوة العودة إلى الدراسة واكتساب شهادة جامعية أخرى في مجالات تخص الموسيقى مثل الإنتاج الموسيقي والتعليم، لكن حلم بناء فرقة متكاملة ثابتة في زمننا الحاضر المتوتر غالباً ما يكون حلماً بعيد المنال، وأنا أميل أكثر إلى السلك التربوي، فما أعمل عليه الآن هو بناء منصة تعليمية تتيح للراغبين تعلم العود والنظريات الموسيقية مجاناً في أي وقت ومكان، وأراها خطوة أولى في درب بناء منهج تدريسي للعود خاص بي، أقوم بإعداده ليلائم المتدربين فبالنسبة لي أفضل أثر يمكن للموسيقي تركه من خلفه هو الأثر الذي يسمح للجميع بالوصول إلى مستواه ومن ثم تجاوزه في حال تواجدت الطاقة والرغبة لدى المتعلم.
12. ما النصيحة التي تقدمها لأي شاب أو شابة يرغبون بتعلّم العود؟
– إن تعلّم العود هي مهارة مشابهة لتعلم أي مهارة أخرى، فهي تتطلب الاستمرار والالتزام والمثابرة بشكل يومي على تطبيق التمارين والقيام بأي شيء يهدف لخدمة تثبيت المهارة في الذهن وتحويلها إلى اللاوعي، ولكن ما يميز تعلم مهارة الموسيقى أن ممارستها تجربة ممتعة يمكن القيام بها بشكل يومي، كما أن الاستماع إلى مختلف أنماط الموسيقى أمر جداً ضروري لبناء مكتبة لحنية يمكن للمتعلم عزفها في المستقبل واستنباط أفكار منها حتى عند التأليف، ولا يجب على المتعلم أن يتملكه شعور الإحباط عند عدم قدرته على أداء موسيقى يحبها في البداية، فهذا أمر طبيعي لأن اختيار الموسيقى التي يجب عليه عزفها هو من مهمة مدرّسه الذي يعرف ما يمكن للمتعلّم أداءه عند بداية مسيرته التعليمية، ولذلك يجب اختيار المدرّس بحرص لضمان الحصول على جودة تعليم عالية، بالإضافة للحصول على المشورة الصادقة والفعّالة عند مواجهة أي عائق.